نطقهم يكون في موطن من مواطن القيامة، أو من فريق من الناس، لأن القرآن يقتضي أنهم يتكلمون بحجج في غير هذا الموطن.
ولما ذكر أشياء من أحوال يوم القيامة، ليرتدع بسماعها من أراد الله تعالى ارتداعه، نبههم على ما هو دليل على التوحيد والحشر والنبوة بما هم يشاهدونه في حال حياتهم، وهو تقليب الليل والنهار من نور إلى ظلمة، ومن ظلمة إلى نور، وفاعل ذلك واحد، وهو الله تعالى، فيجب أن يفرد بالعبادة والألوهية. وفي هذا التقليب دليل على القلب من حياة إلى موت، ومن موت إلى حياة أخرى، وفيه دليل أيضا على النبوة، لأن هذا التقليب هو لمنافع المكلفين، ولهذا علل ذلك الجعل بقوله: * (لتسكنوا فيه) *، وبعثة الأنبياء لتحصيل منافع الخلق؛ وأضاف الإبصار إلى النهار على سبيل المجاز، لما كان يقع فيه أضافه إليه، كما تقول: ليلك نائم، وعلل جعل الليل بقوله: * (لتسكنوا فيه) *، أي لأن يقع سكونهم فيه مما يلحقهم من التعب في النهار واستراحة نفوسهم. قال بعض الرجاز:
* النوم راحة القوى الحسية * من حركات والقوى النفسية * ولم يقع التقابل في جعل النهار بالنص على علته، فيكون التركيب: والنهار لتبصروا فيه، بل أتى بقوله: * (مبصرا) *، قيدا في جعل النهار، لا علة للجعل. فقال الزمخشري: هو مراعى من حيث المعنى، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف، لأن معنى مبصرا: لتبصروا فيه طريق التقلب في المكاسب. انتهى. والذي يظهر أن هذا من باب ما حذف من أوله ما أثبت في مقابله، وحذف من آخره ما أثبت في أوله، فالتقدير: جعلنا الليل مظلما لتسكنوا فيه، والنهار مبصرا لتنصرفوا فيه؛ فالإظلام ينشأ عنه السكون، والإبصار ينشأ عنه التصرف في المصالح، ويدل عليه قوله تعالى: * (وجعلنا اليل والنهار ءايتين فمحونا ءاية اليل وجعلنا) *؟ فالسكون علة لجعل الليل مظلما، والتصرف علة لجعل النهار مبصرا وتقدم لنا: الكلام على نظير هذين الحذفين مشبعا في البقرة في قوله: * (ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق) *.
* (إن فى ذلك) *: أي في هذا الجعل، * (لايات لقوم يؤمنون) *: لما كان لا ينتفع بالفكر في هذه الآيات إلا المؤمنون، خصوا بالذكر، وإن كانت آيات لهم ولغيرهم. * (ويوم ينفخ فى الصور) *: تقدم القول في الصور في سورة الأنعام، وهذه النفخة هي نفخة الفزع. وروي أبو هريرة أن الملك له في الصور ثلاث نفخات: نفخة الفزع، وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر، ونفخة الصعق، ونفخة القيام من القبور. وقيل: نفختان، جعلوا الفزع والصعق نفخة واحدة، واستدلوا بقوله: * (ثم نفخ فيه أخرى) *، ويأتي الكلام في ذلك إن شاء الله. وقال صاحب الغنيان: * (ويوم ينفخ فى الصور) * للبعث من القبور والحشر، وعبر هنا بالماضي في قوله: * (* ففزغ) *، وإن كان لم يقع إشعارا بصحة وقوعه، وأنه كائن لا محالة، وهذه فائدة وضع الماضي موضع المستقبل، كقوله تعالى: * (القيامة فأوردهم النار) *، بعد قوله: * (يقدم قومه يوم القيامة) *.
* (إلا من شاء الله) *: أي فلا ينالهم هذا الفزع لتثبيت الله قلبه. فقال مقاتل: هم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت عليهم السلام. وإذا كان الفزع الأكبر لا ينالهم، فهم حريون أن لا ينالهم هذا. وقال الضحاك: الحور العين، وخزنة النار، وحملة العرش. وعن جابر: منهم موسى، لأنه صعق مرة. وقال أبو هريرة: هم الشهداء، ورواه أبو هريرة حديثا، وهو: (أنهم هم الشهداء عند ربهم يرزقون)، وهو قول ابن جبير، قال: هم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش. وقيل: هم المؤمنون لقوله: * (وهم من فزع