تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٣٠٣
عاجزة، فكيف تعبدونها؟ أو توهمتم لها قدرة، فأروني قدرتها في أي شيء هي، أهي في الأرض؟ كما قال بعضهم: إن الله إله في السماء، وهؤلاء آلهة في الأرض. قالوا: وفيها من الكواكب والأصنام صورها، أم في السماوات؟ كما قال بعضهم: إن السماء خلقت باستعانة الملائكة، فالملائكة شركاء في خلقها، وهذه الأصنام صورها، أم قدرتها في الشفاعة لكم؟ كما قال بعضهم: إن الملائكة ما خلقوا شيئا، ولكنهم مقربون عند الله، فنعبدهم لتشفع لنا، فهل معهم من الله كتاب فيه إذنه لهم بالشفاعة؟ انتهى. وأضاف الشركاء إليهم من حيث هم جعلوهم شركاء الله، أي ليس للأصنام شركة بوجه إلا بقولهم وجعلهم، قيل: ويحتمل شركاءكم في النار لقوله: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) *. والظاهر أن الضمير في * (ءاتيناهم) * عائد على الشركاء، لتناسب الضمائر، أي هل مع ما جعل شركاء لله كتاب من الله فيه إن له شفاعة عنده؟ فإنه لا يشفع إلا بإذنه. وقيل: عائد على المشركين، ويكون التفاتا خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة إعراضا عنهم وتنزيلا لهم منزلة الغائب الذي لا يحصل للخطاب، ومعناه: أن عبادة هؤلاء أما بالعقل، ولا عقل لمن يعبد ما لا يخلق من الأرض جزءا من الأجزاء ولا له شرك في السماء؛ وأما بالنقل، ولم نؤت المشركين كتابا فيه أمر بعبادة هؤلاء، فهذه عبادة لا عقلية ولا نقلية. انتهى. وقرأ ابن وثاب، والأعمش، وحمزة، وأبو عمرو، وابن كثير، وحفص، وأبان عن عاصم: * (على بينة) *، بالإفراد؛ وباقي السبعة: بالجمع.
ولما بين تعالى فساد أمر الأصنام ووقف الحجة على بطلانها، عقبة بذكر عظمته وقدرته ليتبين الشيء بضده، وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة الله فقال: * (إن الله يمسك * السماوات والارض * أن تزولا) *: والظاهر أن معناه أن تنتقلا عن أماكنهما وتسقط السماوات عن علوها. وقيل: معناه أن تزولا عن الدوران. انتهى. ولا يصح أن الأرض لا تدور. ويظهر من قول ابن مسعود: أن السماء لا تدور، وإنما تجري فيها الكواكب. وقال: كفى بها زوالا أن تدور، ولو دارت لكانت قد زالت. وأن تزولا في موضع المفعول له، وقدر لئلا تزولا، وكراهة أن تزولا. وقال الزجاج: يمسك: يمنع من أن تزولا، فيكون مفعولا ثانيا على إسقاط حرف الجر، ويجوز أن يكون بدلا، أي يمنع زوال السماوات والأرض، بدل اشتمال. * (ولئن زالتا) *: إن تدخل غالبا على الممكن، فإن قدرنا دخولها على الممكن، فيكون ذلك باعتبار يوم القيامة عند طي السماء ونسف الجبال، فإن ذلك ممكن، ثم واقع بالخبر الصادق، أي ولئن جاء وقت زوالهما. ويجوز أن يكون ذلك على سبيل الفرض، أي ولئن فرضنا زوالهما، فيكون مثل لو في المعنى. وقد قرأ ابن أبي عبلة: ولو زالتا، وإن نافية، وأمسكهما في معنى المضارع جواب للقسم المقدر قبل لام التوطئة في لئن، وإنما هو في معنى المضارع لدخول إن الشرطية، كقوله: * (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل ءاية ما تبعوا قبلتك) *. أي ما يتبعون، وكقوله: * (ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا) *: أي ليظلوا، فيقدر هذا كله مضارعا لأجل إن الشرطية، وجواب إن في هذه المواضع محذوف لدلالة جواب القسم عليه. قال الزمخشري: و * (ءان) * جواب القسم في * (تزولا ولئن زالتا) *، سد مسد الجوابين. انتهى، يعني أنه دل على الجواب المحذوف، وإن أخذ كلامه على ظاهره لم يصح، لأنه لو سد مسدهما لكان له موضع من الإعراب باعتبار جواب الشرط، ولا موضع له من الإعراب باعتبار جواب القسم. والشيء الواحد لا يكون معمولا غير معمول. ومن في * (من أحد) * لتأكيد الاستغراق، ومن في * (من بعده) * لابتداء الغاية، أي من بعد ترك إمساكه. وسأل ابن عباس رجلا أقبل من الشام: من لقيت؟ قال كعبا، قال: وما سمعته يقول؟ قال: إن السماوات على منكب ملك، قال: كذب كعب، أما ترك يهوديته بعد؟ ثم قرأ هذه الآية. وقال ابن مسعود لجندب البجلي، وكان رجل: أي كعب
(٣٠٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 298 299 300 301 302 303 304 305 306 307 308 ... » »»