قلت: لما جعله مشتريا لهو الحديث بالقرآن قال: يشتري بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق، ونحوه قوله تعالى: * (فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) *، أي وما كانوا مهتدين للتجارة وبصراء بها. انتهى. و * (سبيل الله) *: الإسلام أو القرآن، قولان. قال ابن عطية: والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث مضافا إلى الكفر، فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله: * (ليضل) * إلى آخره. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص: * (ويتخذها) *، بالنصب عطفا على * (ليضل) *، تشريكا في الصلة؛ وباقي السبعة: بالرفع، عطفا على * (يشترى) *، تشريكا في الصلة. والظاهر عود ضمير * (ويتخذها) * على السبيل، كقوله: * (ويبغونها عوجا) *. قيل: ويحتمل أن يعود على * (الكتاب الحكيم) *. وقال تعالى: * (ولا تتخذوا آيات الله هزوا) *. قيل: ويحتمل أن يعود على الأحاديث، لأن الحديث اسم جنس بمعنى الأحاديث. وقال صاحب التحرير: ويظهر لي أنه أراد بلهو الحديث: ما كانوا يظهرونه من الأحاديث في تقوية دينهم، والأمر بالدوام عليه، وتفسير صفة الرسول، وأن التوراة تدل على أنه من ولد إسحاق، يقصدون صد أتباعهم عن الإيمان، وأطلق اسم الشراء لكونهم يأخذون على ذلك الرشا والجعائل من ملوكهم، ويؤيده * (ليضل عن سبيل الله) *: أي دينه. انتهى، وفيه بعض حذف وتلخيص.
* (وإذا تتلى عليه) *: بدأ أولا بالحمل على اللفظ، فأفرد في قوله: * (من يشترى) *، * (* وليضل) *، * (علم ويتخذها) *، ثم جمع على الضمير في قوله: * (أولئك لهم) *، ثم حمل على اللفظ فأفرد في قوله: * (وإذا تتلى) * إلى آخره. ومن في: * (من يشترى) * موصولة، ونظيره في من الشرطية قوله : * (ومن يؤمن * من * بالله) *، فما بعده أفرد ثم قال: * (خالدين) *، فجمع ثم قال: * (قد أحسن الله له رزقا) *، فأفرد، ولا نعلم جاء في القرآن ما حمل على اللفظ، ثم على المعنى، ثم على اللفظ، غير هاتين الآيتين. والنحويون يذكرون * (ومن يؤمن بالله) * الآية فقط، ثم على المعنى، ثم على اللفظ، ويستدلون بها على أن هذا الحكم جار في من الموصولة ونظيرها مما لم يثن ولم يجمع من الموصولات. وتضمنت هذه الآية ذم المشتري من وجوه التولية عن الحكمة، ثم الاستكبار، ثم عدم الالتفات إلى سماعها، كأنه غافل عنها، ثم الإيغال في الإعراض بكون أذنيه كأن فيهما صمما يصده عن السماع. و * (كأن لم يسمعها) *: حال من الضمير في * (مستكبرا) *، أي مشبها حال من لم يسمعها، لكونه لا يجعل لها بالا ولا يلتفت إليها؛ وكأن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن واجب الحذف. و * (كأن فى أذنيه وقرا) *: حال من لم يسمعها. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكونا استئنافين. انتهى، يعني الجملتين التشبيهيتين.
ولما ذكر ما وعد به الكفار من العذاب الأليم، ذكر ما وعد به المؤمنين. وقرأ زيد بن علي: خالدون، بالواو؛ والجمهور: بالياء. وانتصب * (وعد الله) * على أنه مصدر مؤكد لنفسه، و * (حقا) * على المصدر المؤكد لغيره، لأن قوله: * (لهم جنات النعيم) *، والعامل فيها متغاير، فوعد الله منصوب، أي يوعد الله وعده، وحقا منصوب بأحق ذلك حقا. * (خلق * السماوات) * إلى * (فأنبتنا فيها) *، تقدم الكلام على ذلك. ومعنى * (كريم) *: مدحته بكرم جوهره ونفاسته وحسن منظره، وما تقضي له النفوس بأنه أفضل من غيره حتى استحق الكرم، فيخص لفظ الأزواج ما كان نفيسا مستحسنا من جهة، أو مدحته بإتقان صفته وظهور حسن الرتبة والتحكم للصنع فيه، فيعم جميع الأزواج، وهو الأنواع. * (هاذا خلق الله) *: إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته، وبخ بذلك الكفار وأظهر حجته. والخلق بمعنى المخلوق، كقولهم: درهم ضرب الأمير، أي مضروبه. ثم سألهم على جهة التهكم بهم أن يورده. وأما خلقته آلتهم لما ذكر مخلوقاته، فكيف عبدوها من دونه؟ ويجوز في ماذا أن تكون كلها موصولة بمعنى الذي، وتكون مفعولا ثانيا لأروني. واستعمال ماذا كلها موصولا قليل، وقد ذكره سيبويه. ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع رفع على الابتداء، وذا موصولة بمعنى الذي، وهو خبر عن ما، والجملة في موضع نصب بأروني، وأروني معلقة عن العمل لفظا لأجل الاستفام. ثم أضرب عن توبيخهم وتبكيتهم إلى التسجيل عليهم بأنهم في حيرة واضحة لمن يتدبر، لأن من عبد صنما وترك خالقه جدير بأن يكون في حية وتيه لا يقلع عنه.