تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٤٧٠
بلاغة في الجواب كما يذكر عنه فقال له المأمون: فما أجابك به؟ قال: كان يقول لي سلاما سلاما، فنبهه المأمون على هذه الآية وقال: يا عم قد أجابك بأبلغ جواب. فخزي إبراهيم واستحيا، وكان إبراهيم لم يحفظ الآية أو ذهب عنه حالة الحكاية.
والبيتوتة هو أن يدرك الليل نمت أو لم تنم، وهو خلاف الظلول وبجبيلة وأزد السراة يقولون: بيات وسائر العرب يقولون: يبيت، ولما ذكر حالهم بالنهار بأنهم يتصرفون أحسن تصرف ذكر حالهم بالليل والظاهر أنه يعنى إحياء الليل بالصلاة أو أكثره. وقيل: من قرأ شيئا من القرآن بالليل في صلاة فقد بات ساجدا وقائما. وقيل: هما الركعتان بعد المغرب، والركعتان بعد العشاء. وقيل: من شفع وأوتر بعد أن صلى العشاء فقد دخل في هذه الآية. وفي هذه الآية حض على قيام الليل في الصلاة. وقدم السجود وإن كان متأخرا في الفعل لأجل الفواصل، ولفضل السجود فإنها حالة أقرب ما يكون العبد فيها من الله. وقرأ أبو البرهثيم: سجودا على وزن قعودا. ومدحهم تعالى بدعائه أن يصرف عنهم عذاب جهنم وفيه تحقيق إيمانهم بالبعث والجزاء. قال ابن عباس: * (غراما) * فظيعا وجيعا. وقال الخدري: لازما ملحا دائما. قال الحسن: كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم. وقال السدي: شديدا. وأنشدوا على أن * (غراما) * لازما قوله الشاعر وهو بشر بن أبي خازم:
* ويوم اليسار ويوم الجفار * كانا عذابا وكانا غراما * وقال الأعشى.
* إن يعاقب يكن غراما * وإن يعط جزيلا فإنه لا يبالي وصفهم بإحياء الليل ساجدين ثم عقبه بذكر دعائهم هذا إيذانا بأنهم مع اجتهادهم خائفون يبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم. و * (ساءت) * احتمل أن يكون بمعنى بئست. والمخصوص بالذم محذوف وفي * (ساءت) * ضمير مبهم ويتعين أن يكون * (مستقرا ومقاما) * تمييز. والتقدير * (ساءت مستقرا ومقاما) * هي وهذا المخصوص بالذم هو رابط الجملة الواقعة خبرا لأن. ويجوز أن يكون * (ساءت) * بمعن أحزنت فيكون المفعول محذوفا أي ساءتهم. والفاعل ضمير جهنم وجاز في * (مستقرا ومقاما) * أن يكونا تمييزين وأن يكونا حالين قد عطف أحدهما على الآخر. والظاهر أن التعليلين غير مترادفين ذكر أولا لزوم عذابها، وثانيا مساءة مكانها وهما متغايران وإن كان يلزم من لزوم العذاب في مكان دم ذلك المكان. وقيل: هما مترادفان، والظاهر أنه من كلام الداعين وحكاية لقولهم. وقيل: هو من كلام الله، ويظهر أن قوله * (ومقاما) * معطوف على سبيل التوكيد لأن الاستقرار والإقامة كأنهما مترادفان. وقيل: المستقر للعصاة من أهل الإيمان فإنهم يستقرون فيها ولا يقيمون، والإقامة للكفار. وقرأت فرقة * (ومقاما) * بفتح الميم أي مكان قيام، والجمهور بالضم أي مكان إقامة.
* * (لم يسرفوا) * ولم يقتروا. قال أبو عبد الرحمن الجيلي: الإنفاق في غير طاعة اسراف، والإمساك عن طاعة إقتار. وقال معناه ابن عباس ومجاهد وابن زيد. وسمع رجل رجلا يقول: لا خير في الإسراف فقال: لا إسراف في الخير. وقال عون بن عبد الله بن عتبة: الإسراف أن تنفق مال غيرك. وقال النخعي: هو الذي لا يجيع ولا يعري ولا ينفق نفقة يقول: الناس قد أسرف. وقال يزيد بن أبي حبيب: هم الذين لا يلبسون الثياب للجمال ولا يأكلون طعاما للذة وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ قال له عمر: الحسنة بين
(٤٧٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 465 466 467 468 469 470 471 472 473 474 475 » »»