تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٤٥٩
والإنكار سخرية واستهزاء، ولو لم يستهزئوا لقالوا هذا زعم أو ادعى أنه مبعوث من عند الله رسولا.
وقولهم * (إن كاد ليضلنا) * دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم) في دعوتهم، وبذله قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم مع عرض الآيات والمعجزات حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام لولا فرط لاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم. و * (لولا) * في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى لا من حيث اللفظ مجرى التقييد للحكم المطلق قاله الزمخشري. وقال أبو عبد الله الرازي: الاستهزاء إما بالصورة فكان أحسن منهم خلقة أو بالصفة فلا يمكن لأن الصفة التي تميز بها عنهم ظهور المعجز عليه دونهم، وما قدروا على القدح في حجته ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم ثم لوقاحتهم قلبوا القصة والستهزؤوا بالرسول عليه الصلاة والسلام انتهى. قيل: وتدل الآية على أنهم صاروا في ظهور حجته عليه الصلاة والسلام عليهم كالمجانين استهزؤوا به أولا ثم إنهم وصفوه بأنه * (كاد ليضلنا) * عن مذهبنا * (لولا) * أنا قابلناه بالجمود والإصرار فهذا يدل على أنهم سلموا له قوة الحجة وكمال العقل، فكونهم جمعوا بين الاستهزاء وبين هذه الكيدودة دل على أنهم كانوا كالمتحيرين في أمره تارة يستهزئون منه وتارة يصفونه بما لا يليق إلا بالعالم الكامل.
* (وسوف يعلمون) * وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال فلا بد للوعيد أن يلحقهم فلا يغرنهم التأخير، ولما قالوا * (إن كاد ليضلنا) * جاء قوله * (من أضل سبيلا) * أي سيظهر لهم من المضل ومن الضال بمشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه. والظاهر أن من استفهامية وأضل خبره والجملة في موضع مفعول * (يعلمون) * إن كانت متعدية إلى واحد أو في موضع مفعولين إن كانت تعدت إلى اثنين، ويجوز أن تكون * (من) * موصولة مفعولة بيعلمون و * (أضل) * خبر مبتدأ محذوف أي هو أضل، وصار حذف هذا المضمر للاستطالة التي حصلت في قول العرب ما أنا بالذي قائل لك سواء.
* (أرءيت من اتخذ إلاهه هواه) * هذا يأس عن إيمانهم وإشارة إليه عليه السلام أن لا يتأسف عليهم، وإعلام أنهم في الجهل بالمنافع وقلة النظر في العواقب مثل البهائم ثم ذكر أنهم * (أضل سبيلا) * من الأنعام من حيث لهم فهم وتركوا استعماله فيما يخلصهم من عذاب الله. والأنعام لا سبيل لها إلى فهم المصالح. و * (أرأيت) * استفهام تعجب من جهل من هذه الحالة و * (إلاهه) * المفعول الأول لاتخذ، و * (هواه) * الثاني أي أقام مقام الإله الذي يعبده هواه فهو حار على ما يكون في * (هواه) * والمعنى أنه لم يتخذ إلها إلا هواه وادعاء القلب ليس بجيد إذ يقدره من اتخذ هواه إلهه والبيت من ضرائر الشعر ونادر الكلام فينزه كلام الله عنه كان الرجل يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه وأخذ الأحسن.
قيل: نزلت في الحارث بن قيس السهمي، كان إذا هوى شيئا عبده، والهوى ميل القلب إلى الشيء أفأنت تجبره على ترك هواه، أو أفأنت تحفظه من عظيم جهله. وقرأ بعض أهل المدينة من اتخذ آلهة منونة على الجمع، وفيه تقديم جعل هواه أنواعا أسماء لأجناس مختلفة فجعل كل جنس من هواه إلها آخر. وقرأ ابن هرمز: إلاهة على وزن فعالة وفيه أيضا تقديم أي هواه إلاهة بمعنى معبود لأنها بمعنى المألوهة. فالهاء فيها للمبالغة فلذلك صرفت. وقيل: بل الإلاهة الشمس ويقال لها ألاهة بضم الهمزة وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث لكنها لما كانت مما يدخلها لام المعرفة في بعض اللغات صارت بمنزلة ما كان فيه اللام ثم نزعت فلذلك صرفت وصارت بمنزلة النعوت فتنكرت قاله صاحب اللوامح. ومفعول * (أرأيت) * الأول هو * (من) * والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني. وتقدم الكلام في * (أرأيت) * في أوائل الأنعام ومعنى * (وكيلا) * أي هل تستطيع أن تدعو إلى الهدى فتتوكل عليه وتجبره على الإسلام. و * (أم) * منقطعة تتقدر ببل والهمزة على المذهب الصحيح كأنه قال: بل أتحسب كان هذه المذمة أشد من التي تقدمتها حتى حفت بالإضراب عنها إليها وهو كونها مسلوبي الأسماع والعقول لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق أذنا إلى تدبره عقلا، ومشبهين بالأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلالة، ونفى ذلك عن أكثرهم لأن فيهم من سبقت له السعادة فأسلم، وجعلوا أضل من الأنعام لأنها تنقاد لأربابها وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها وتطلب منفعتها وتتجنب مضرتها وتهتدي إلى مراعيها ومشاربها، وهم لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم ولا يرغبون في
(٤٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 454 455 456 457 458 459 460 461 462 463 464 ... » »»