تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ١٣
في الانتقال لا يثبت على حال، فنور عقب ظلمة وبالعكس، وازدياد نور وانتقاض. والظاهر أن * (وسخر لكم) * مفعول أول لجعل بمعنى صير، و * (ءايتين) * ثاني المفعولين ويكونان في أنفسهما آيتين لأنهما علامتان للنظر والعبرة، وتكون الإضافة في * (وجعلنا اليل * وءاية * النهار) * للتبيين كإضافة العدد إلى المعدود، أي * (فمحونا) * الآية التي هي الليل، وجعلنا الآية التي هي النار مبصرة. وقيل: هو على حذف مضاف فقدره بعضهم وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين، وقدره بعضهم و: جعلنا ذوي الليل والنهار أي صاحبي الليل والنهار، وعلى كلا التقديرين يراد به الشمس والقمر، ويظهر أن * (ءايتين) * هو المفعول الأول، و * (وسخر لكم) * ظرفان في موضع المفعول الثاني، أي وجعلنا في الليل والنهار آيتين. وقال الكرماني: ليس جعل هنا بمعنى صير لأن ذلك يقتضي حالة تقدمت نقل الشيء عنها إلى حالة أخرى، ولا بمعنى سمى وحكم، والآية فيها إقبال كل واحد منهما وإدباره من حيث لا يعلم، ونقصان أحدهما بزيادة الآخر، وضوء النهار وظلمة الليل * (فمحونا ءاية اليل) * إذا قلنا أن الليل والنهار هما المجعولان آيتين فمحو آية الليل عبارة عن السواد الذي فيه، بل خلق أسود أول حاله ولا تقضي الفاء تعقيبا وهذا كما يقول بنيت داري فبدأت بالأس. وإذا قلنا أن الآيتين هما الشمس والقمر، فقيل: محو القمر كونه لم يجعل له نورا. وقيل: محوه طلوعه صغيرا ثم ينمو ثم ينقص حتى يستر. وقيل: محوه نقصه عما كان خلق عليه من الإضاءة، وأنه جعل نور الشمس سبعين جزأ ونور القمر كذلك، فمحا من نور القمر حتى صار على جزء واحد، وجعل ما محى منه زائدا في نور الشمس، وهذا مروي عن علي وابن عباس.
وقال ابن عيسى: جعلناها لا تبصر المرئيات فيها كما لا يبصر ما محي من الكتاب. قال: وهذا من البلاغة الحسنة جدا. وقال الزمخشري: * (فمحونا ءاية اليل) * أي جعلنا الليل ممحوا لضوء مطموسه، مظلما لا يستبان منه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحو، وجعلنا النهار مبصرا أي يبصر فيه الأشياء وتستبان، أو * (فمحونا ءاية اليل) * التي هي القمر حيث لم يخلق له شعاع كشعاع الشمس فترى به الأشياء رؤية بينة، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء انتهى. ونسب الإبصار إلى * (النهار مبصرة) * على سبيل المجاز كما تقول: ليل قائم ونائم، أي يقام فيه وينام فيه. فالمعنى يبصر فيها.
وقيل: معنى * (مبصرة) * مضيئة. وقيل: هو من باب أفعل، والمراد به غير من أسند أفعل إليه كقوله: أجبن الرجل إذا كان أهله جبناء، وأضعف إذا كان دوابه ضعافا فأبصرت الآية إذا كان أصحابها بصراء. وقرأ قتادة وعلي ابن الحسين * (مبصرة) * بفتح الميم، والصاد وهو مصدر أقيم مقام الاسم، وكثر مثل ذلك في صفات الأمكنة كقولهم: أرض مسبعة ومكان مضبة، وعلل المحو والإبصار بابتغاء الفضل وعلم عدد السنين والحساب، وولى التعليل بالأبتغاء ما وليه من آية النهار وتأخر التعليل بالعلم عن آية الليل. وجاء في قوله: * (ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) * البداءة بتعليل المتقدم ثم تعليل المتأخر بالعلة المتأخرة، وهما طريقان تقدم الكلام عليهما.
ومعنى * (لتبتغوا) * لتتوصلوا إلى استبانة أعمالكم وتصرفكم في معايشكم * (والحساب) * للشهور والأيام والساعات، ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة آية الليل لا من جهة آية النهار * (وكل شىء) * مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم * (فصلناه) * بيناه تبيينا غير ملتبس، والظاهر أن نصب * (وكل شىء) * على الاشتغال، وكان ذلك أرجح من الرفع لسبق الجملة الفعلية في قوله: * (وجعلنا اليل والنهار) * وأبعد من ذهب إلى أن * (وكل شىء) * معطوف على قوله: * (والحساب) * والطائر.
قال ابن عباس: ما قدر له وعليه، وخاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف إذ كان من عادتها التيمن والتشاؤم بالطير في كونها سانحة وبارحة وكثر ذلك حتى فعلته بالظباء وحيوان الفلاة، وسمي ذلك كله تطيرا. وكانت تعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقي الإنسان من خير وشر، فأخبرهم الله تعالى في أوجز لفظ وأبلغ إشارة أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر فقد سبق به القضاء وألزم حظه وعمله ومكسبه في عنقه، فعبر عن الحظ والعمل إذ هما متلازمان بالطائر قاله مجاهد وقتادة بحسب معتقد العرب في التطير، وقولهم في الأمور على الطائر الميمون وبأسعد طائر، ومنه ما طار في المحاصة والسهم، ومنه
(١٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 ... » »»