تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ١٦
واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبر كما خلقهم أصحاء أقوياء وأقدرهم على الخير والشر، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية، وآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول، وهي كلمة العذاب فدمرهم. فإن قلت: هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت: لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نفيضه. وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه وهو كلام مستفيض. يقال: أمرته فقام وأمرته فقرأ، لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة، ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب ولا يلزم هذا قولهم أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأن ذلك مناف للأمر مناقض له، ولا يكون ما يناقض الأمر مأمورا به، فكان محالا أن يقصد أصلا حتى يجعل دالا على المأمور به، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي، لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأمورا به وكأنه يقول: كان مني أمر فلم يكن منه طاعة كما أن من يقول: فلان يعطي ويمنع ويأمر وينهي غير قاصد إلى مفعول. فإن قلت: هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقسط والخير دليلا على أن المراد أمرناهم بالخير * (ففسقوا) *؟ قلت: لا يصح ذلك لأن قوله * (ففسقوا) * يدافعه فكأنك أظهرت شيئا وأنت تدعي إضمار خلافه، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه. ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه تقول: لو شاء لأحسن إليك، ولو شاء لأساء إليك، تريد لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت وقلت: قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الإساءة فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة لم يكن على سداد انتهى.
أما ما ارتكبه من المجاز وهو أن * (أمرنا مترفيها) * صببنا عليهم النعمة صبا فيبعد جدا. وأما قوله وأقدرهم على الخير والشر إلى آخره فمذهب الاعتزال، وقوله لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز تعليل لا يصح فيما نحن بسبيله، بل ثم ما يدلر على حذفه. وقوله فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه إلى قوله علم الغيب، فنقول: حذف الشيء تارة يكون لدلالة موافقه عليه، ومنه ما مثل به في قوله أمرته فقام وأمرته فقرأ، وتارة يكون لدلالة خلافه أو ضده أو نقيضه فمن ذلك قوله تعالى: * (وله ما سكن فى اليل والنهار) * قالوا: تقديره ما سكن وما تحرك. وقوله تعالى * (سرابيل تقيكم الحر) * قالوا: الحر والبرد. وقول الشاعر:
* وما أدري إذا يممت أرضا * أريد الخير أيهما يليني * * أالخير الذي أنا أبتغيه * أم الشر الذي هو يبتغيني * تقديره: أريد الخير وأجتنب الشر، وتقول: أمرته فلم يحسن فليس المعنى أمرته بعدم الإحسان فلم يحسن، بل المعنى أمرته بالإحسان فلم يحسن، وهذه الآية من هذا القبيل يستدل على حذف النقيض بإثبات نقيضه، ودلالة النقيض على النقيض كدلالة النظير على النظير، وكذلك أمرته فأساء إلي ليس المعنى أمرته بالإساءة فأساء إلي، إنما يفهم منه أمرته بالإحسان فأساء إلي. وقوله ولا يلزم هذا قولهم أمرته فعصاني. نقول: بل يلزم، وقوله لأن ذلك مناف أي لأن
(١٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 ... » »»