تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٧٥
قال الضحاك: هم نبتل بن الحرث، وجد بن قيس، ومعتب بن قشير، وثعلبة بن حاطب، وفيهم نزلت الآية. وقال الحسن ومجاهد: في معتب وثعلبة خرجا على ملأ فقالا ذلك. وقال ابن السائب: في رجل من بني عمرو بن عوف كان له مال بالشام فأبطأ عنه، فجهد لذلك جهدا شديدا، فحلف بالله لئن آتانا من فضله أي من ذلك المال لأصدقن منه ولأصلن، فآتاه فلم يفعل. والأكثر على أنها نزلت في ثعلبة، وذكروا له حديثا طويلا وقد لخصت منه: أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم) أن يدعو الله أن يرزقه مالا فقيل له: قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، فألح عليه، فدعا الله، فاتخذ غنما كثرت حتى ضاقت عنها المدينة، فنزل واديا وما زالت تنمو، واشتغل بها حتى ترك الصلوات، وبعث إليه الرسول صلى الله عليه وسلم) المصدق فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، فنزلت هذه الآية. فأخبره قريب له بها، فجاء بصدقته إلى الرسول فلم يقبلها، فلما قبض الرسول أتى أبا بكر فلم يقبلها، ثم عمر فلم يقبلها، ثم عثمان فلم يقبلها، وهلك في أيام عثمان.
وقرأ الأعمش: لنصدقن ولنكونن بالنون الخفيفة فيهما، والظاهر والمستفيض من أسباب النزول أنهم نطقوا بذلك ولفظوا به. وقال معبد بن ثابت وفرقة: لم يتلفظوا به، وإنما هو شيء نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به، ألم تسمع إلى قوله: * (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم) * من الصالحين. أي من أهل الصلاح في أموالهم بصلة الرحم والإنفاق في الخير والحج وأعمال البر. وقيل: من المؤمنين في طلب الآخرة. بخلوا به أي: بإخراج حقه منه، وكل بخل أعقب بوعيد فهو عبارة عن منع الحق الواجب. والظاهر أن الضمير في فأعقبهم هو عائد على الله، عاقبهم على الذنب بما هو أشد منه. قال الزمخشري: خذلهم حين نافقوا، وتمكن من قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح وكونهم كاذبين، ومنه خلف الموعد ثلث النفاق انتهى. وقوله: خذلهم هو لفظ المعتزلة. وقال الحسن وقتادة: الضمير في فأعقبهم للبخل، أي فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم. وقال أبو مسلم: فأعقبهم أي البخل والتولي والإعراض. قال ابن عطية: يحتمل أن يكون نفاق كفر، ويكون تقرير ثعلبة بعد هذا النص والإبقاء عليه لمكان إظهاره الإسلام، وتعلقه بما فيه احتمال. ويحتمل أن يكون نفاق معصية وقلة استقامة، فيكون تقريره صحيحا، ويكون ترك قبول الزكاة منه عقابا له ونكالا. وهذا نحو ما روي أن عاملا كتب إلى عمر بن عبد العزيز أن فلانا يمنع الزكاة، فكتب إليه: أن دعه، واجعل عقوبته أن لا يؤدي الزكاة مع المسلمين، يريد لما يلحقه من المقت في ذلك. والظاهر عود الضمير في: يلقونه، على الله تعالى. وقيل: يلقون الجزاء. فقيل: جزاء بخلهم. وقيل: جزاء أفعالهم.
وقرأ أبو رجاء: يكذبون بالتشديد. ولفظه: فأعقبهم، نفاقا لا تدل ولا تشعر بأنه كان مسلما، ثم لما بخل ولم يف بالعهد صار منافقا كما قال أبو عبد الله الرازي، لأن المعقب نفاق متصل إلى وقت الموافاة، فهو نفاق مقيد بغاية، ولا يدل المقيد على انتفاء المطلق قبله. وإذا كان الضمير عائدا على الله فلا يكون اللقاء متضمنا رؤية الله لإجماع العلماء على أن الكفار لا يرون الله، فالاستدلال باللقاء على الرؤية من قوله تعالى: * (تحيتهم يوم يلقونه سلام) * ليس بظاهر، ولقوله: * (من * يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين * ولما رجع موسى إلى قومه غضبان) * وأجمعوا على أن المراد هنا لقي ما عند الله من العقاب. ألم يعلموا هذا استفهام تضمن التوبيخ والتقريع.
وقرأ علي وأبو عبد الرحمن والحسن: تعلموا بالتاء، وهو خطاب للمؤمنين على سبيل التقرير. وأنه تعالى فاضح المنافقين، ومعلم المؤمنين أحوالهم التي يكتمونها شيئا فشيئا سرهم ونجواهم. هذا التقسيم عبارة عن إحاطة علم الله بهم. والظاهر أن
(٧٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 ... » »»