عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره. وقوله: استحبوا، هو تكسب منهم علق به العقاب، وأن الله لا يهدي إشارة إلى اختراع الله الكفر في قلوبهم، فجمعت الآية بين الكسب والاختراع، وهذا عقيدة أهل السنة. وقيل: ذلك إشارة إلى الارتداد والإقدام على الكفر، لأجل أنهم رجحوا الدنيا على الآخرة، ولأنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان. وتقدم الكلام على الطبع على القلوب والسمع والأبصار والختم عليها. وأولئك هم الغافلون: قال ابن عباس: عن ما يراد منهم في الآخرة. وقال الزمخشري: الكاملون في الغفلة الذين لا أحد أغفل منهم، لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها. ولما كان الإسناد ليكتسب بالطاعات سعادة الآخر، فعمل على عكس ذلك من المعاصي الكفر وغيره عظم خسرانه فقيل فيهم: هم الخاسرون ولا غيرهم. ومن أخسر ممن اتصف بتلك الأوصاف السابقة من كينونة غضب الله عليهم، والعذاب الأليم، واستحباب الدنيا، وانتفاء هدايتهم، والأخبار بالطبع وبغفلتهم. ولما ذكر تعالى حال من كفر بعد الإيمان، وحال من أكره، ذكر حال من هاجر بعد ما فتن. قال ابن عطية: وهذه الآية مدنية، ولا أعلم في ذلك خلافا. وقال ابن عباس: نزلت فكتب بها المسلمون إلى من كان أسلم بمكة أن الله قد جعل لكم مخرجا، فخرجوا، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل، فعلى هذا السبب يكون جهادهم مع الرسول على الإسلام. وروي أنهم خرجوا واتبعوا وجاهدوا متبعيهم، فقتل من قتل، ونجا من نجا، فنزلت حينئذ، فعنى بالجهاد جهادهم لمتبعيهم. وقال ابن إسحاق: نزلت في عمار، وعياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد. قال ابن عطية: وذكر عمار في هذا غير قويم، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء، وإنما هؤلاء من باب ممن شرح بالكفر صدرا أفتح الله لهم باب التوبة في آخر الآية. وقال عكرمة والحسن: نزلت في شأن عبد الله بن أبي سرح وأشباهه، فكأنه يقول: من بعد ما فتنهم الشيطان. وقال الزمخشري: ثم إن ربك دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك، وهم عمار وأصحابه. وللذين عند الزمخشري في موضع خبران قال: ومعنى إن ربك لهم إنه لهم لا عليهم، بمعنى أنه وليهم وناصرهم، لا عدوهم وخادلهم كما يكون الملك للرجل: لا عليه، فيكون محميا منفوعا غير مضرور انتهى. وقوله: منفوعا اسم مفعول من نفع، وهو قياسه لأنه متعد ثلاثي. وزعم الأهوازي النحوي أنه لا يستعمل من نفع اسم مفعول، فلا يقال منفوع وقفت له عليه في شرحه موجز الرماني. وقال أبو البقاء: خبر أن الأولى قوله: إن ربك لغفور، وأن الثانية واسمها تكرير للتوكيد انتهى. وإذا كانت أن الثانية واسمها تكريرا للتوكيد كما ذكر، فالذي يقتضيه صناعة العربية أن يكون خبر أن الأولى هو قوله: لغفور، ويكون للذين متعلقا بقوله: لغفور، أو برحيم على الأعمال، لأن إن ربك الثانية لا يكون لها طلب لما بعدها من حيث الإعراب. كما أنك إذا قلت: قام قام زيد، فزيد إنما هو مرفوع بقام الأولى، لأن الثانية ذكرت على سبيل التوكيد للأولى. وقيل: لا خبر لأن الأولى في اللفظ لأن خبر الثانية أغنى عنه انتهى. وهذا ليس بجيد، لأنه ألغى حكم الأولى وجعل الحكم للثانية، وهو عكس ما تقدم، ولا يجوز. وقيل: للذين متعلق بمحذوف على جهة البيان كأنه قيل: أعني للذين، أي الغفران للذين. وقرأ الجمهور: فتنوا مبنيا للمفعول أي: بالعذاب والإكراه على كلمة الكفر. وقرأ ابن عامر: فتنوا مبنيا للفاعل، والظاهر أن الضمير عائد على الذين هاجروا، فالمعنى: فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول كما فعل عمار. أو لما كانوا صابرين على الإسلام وعذبوا بسبب ذلك صاروا كأنهم هم المعذبون أنفسهم، ويجوز أن يكون عائدا على المشركين أي: من بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمي وأشباهه. والضمير في من بعدها عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي: من بعد الفتنة والهجرة والجهاد والصبر. وقال ابن عطية: والضمير في بعدها عائد على الفتنة، أو الهجرة، أو التوبة، والكلام يعطيها وإن لم يجر لها ذكر صريح.
(٥٢٢)