تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٢١٥
أرسلنا وإما نذير مبين، ويحتمل أن تكون معمولة لأرسلنا أي: بأن لا تعبدوا إلا الله، وإسناد الألم إلى اليوم مجاز لوقوع الألم فينه لا به.
قال الزمخشري: (فإن قلت): فإذا وصف به العذاب؟ (قلت): مجازى مثله، لأن الأليم في الحقيقة هو المعذب، ونظيرهما قولك: نهاره صائم انتهى. وهذا على أن يكون أليم صفة مبالغة من آلم، وهو من كثر ألمه. فإن كان أليم بمعنى مؤلم، فنسبته لليوم مجاز، وللعذاب حقيقة. لما أنذرهم من عذاب الله وأمرهم بإفراده بالعبادة، وأخبر أنه رسول من عند الله، ذكروا أنه مماثلهم في البشرية، واستبعدوا أن يبعث الله رسولا من البشر، وكأنهم ذهبوا إلى مذهب البراهمة الذين ينكرون نبوة البشر على الإطلاق، ثم عيروه بأنه لم يتبعه إلا الأراذل أي: فنحن لا نساويهم، ثم نفوا أن يكون له عليهم فضل. أي: أنت مساوينا في البشرية ولا فضل لك علينا، فكيف امتزت بأنك رسول الله؟ وفي قوله: إلا الذين هم أراذلنا، مبالغة في الأخبار، وكأنه مؤذن بتأكيد حصر من اتبعه، وأنهم هم الأراذل لم يشركهم شريف في ذلك. وفي الحديث (إنهم كانوا حاكة وحجامين) وقال النحاس: هم الفقراء والذين لا حسب لهم، والخسيسوا الصناعات. وفي حديث هرقل: (أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال: هم أتباع الرسل قبل) وإنما كان كذلك لاستيلاء الرئاسة على الأشراف وصعوبة الانفكاك عنها، والأنفة من الانقياد لغيرهم، والفقير خلى عن تلك الموانع فهو سريع إلى الإجابة والانقياد. ونراك يحتمل أن تكون بصرية، وأن تكون علمية. قالوا: وأراذل جمع الجمع، فقيل: جمع أرذل ككلب وأكلب وأكالب. وقيل: جمع أرذلنا، وقياسه أزاذيل. والظاهر أنه جمع أرذل التي هي أفعل التفضيل وجاء جمعا، كما جاء أكابر مجرميها وأحاسنكم أخلاقا. وقال الزمخشري: ما نراك إلا بشرا مثلنا، تعريض بأنهم أحق منه بالنبوة، وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا: هب أنك واحد من الملأ وموازيهم في المنزلة، فما جعلك أحق منهم؟ ألا ترى إلى قولهم: وما نرى لكم علينا من فضل، أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكا لا بشرا، ولا يظهر ما قاله الزمخشري من الآية.
وقرأ أبو عمرو، وعيسى الثقفي: بادىء الرأي من بدأ يبدأ ومعناه: أول الرأي. وقرأ باقي السبعة: بادي بالياء من بدا يبدو، ومعناه ظاهر الرأي. وقيل: بادي بالياء معناه بادىء بالهمز، فسهلت الهمزة بإبدالها ياء لكسر ما قبلها. وذكروا أنه منصوب على الظرف، والعامل فيه نراك أو اتبعك أو أراذلنا أي: وما نراك فيما يظهر لنا من الرأي، أو في أول رأينا، أو وما نراك اتبعك أول رأيهم، أو ظاهر رأيهم. واحتمل هذا الوجه معنيين: أحدهما: أن يريد اتبعك في ظاهر أمرهم، وعسى أن تكون بواطنهم ليست معك. والمعنى الثاني: أن يريد اتبعوك بأول نظر وبالرأي البادىء دون تعقب، ولو تثبتوا لم يتبعوك، وفي هذا الوجه ذم الرأي غير المروي. وقال الزمخشري: اتبعوك أول الرأي، أو ظاهر الرأي، وانتصابه على الظرف أصله وقت حدوث أول أمرهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم، فحذف ذلك، وأقيم المضاف إليه مقامه، أرادوا أن اتباعهم لك إنما هو شيء عن لهم بديهة من غير روية ونظر انتهى. وكونه منصوبا على الظرف هو قول أبي على في الحجة، وإنما حمله على الظرف وليس بزمان ولا مكان، لأن في مقدرة فيه أي: في ظاهر الأمر، أو في أول الأمر. وعلى هذين التقديرين أعني أن يكون العامل فيه نراك، أو اتبعك يقتضي أن لا يجوز ذلك، لأن ما بعد إلا لا يكون معمولا لما قبلها إلا إن كان مستثنى منه نحو: قام إلا زيدا القوم، أو مستثنى نحو: جاء القوم إلا زيدا، أو تابعا للمستثنى منه نحو: ما جاءني أحد إلا زيد أخبرني عمرو، وبادىء الرأي ليس واحدا من هذه الثلاثة. وأجيب بأنه ظرف، أو كالظرف مثل جهد رأي أنك ذاهب، أي أنك ذاهب في جهد رأي، والظروف يتسع فيها. وإذا كان العامل أراذل فمعناه الذين هم أراذلنا بأدل نظر فيهم، وببادىء الرأي يعلم ذلك منهم. وقيل: بادي الرأي نعت لقوله: بشرا. وقيل: انتصب حالا من ضمير نوح في اتبعك، أي: وأنت
(٢١٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 210 211 212 213 214 215 216 217 218 219 220 ... » »»