تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٤ - الصفحة ٧
زاهد، والرهبان جمع راهب كفارس وفرسان والرهب والرهبة الخشية. وقيل الرهبان مفرد كسلطان وأنشدوا:
* لو عاينت رهبان دير في القلل * تحدر الرهبان تمشي وتزل * ويروي ونزل، والقسيس تقدم شرحه في المفردات. وقال ابن زيد: هو رأس الرهبان. وقيل: العالم. وقيل: رافع الصوت بالقراءة. وقيل: الصديق، وفي هذا التعليل دليل على جلاله العلم، وأنه سبيل إلى الهداية، وعلى حسن عاقبة الانقطاع، وأنه طريق إلى النظر في العاقبة على التواضع، وأنه سبب لتعظيم الموحد إذ يشهد من نفسه ومن كل محدث أنه مفتقر للموجد فيعظم عند مخترع الأشياء البارىء * (وإذا ما * سمعوا ما أنزل إلى * رسول الله * ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) * هذا وصف برقة القلوب والتأثر بسماع القرآن، والظاهر أن الضمير يعود على قسيسين ورهبانا فيكون عاما، ويكون قد أخبر عنهم بما يقع من بعضهم كما جرى للنجاشي حيث تلا عليه جعفر سورة مريم إلى قوله * (ذالك عيسى ابن مريم) * وسورة طه إلى قوله * (وهل أتاك حديث موسى) * فبكى وكذلك قومه الذين وفدوا على الرسول حين قرأ عليها * (يس) * فبكوا.
وقال ابن عطية ما معناه: صدر الآية عام في النصارى و * (إذا * سمعوا) * عام في من آمن من القادمين من أرض الحبشة، إذ ليس كل النصارى يفعل ذلك، بل هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي صلى الله عليه وسلم) ويسمعوا ما عنده، فلما رأوه وتلا عليهم القرآن فاضت أعينهم من خشية الله تعالى، انتهى.
وقال السدي: لما رجعوا إلى النجاشي آمن وهاجر بمن معه فمات في الطريق، فصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم) والمسلمون واستغفروا له، * (وترى) * من رؤية العين وأسند الفيض إلى الأعين وإن كان حقيقة للدموع كما قال:
ففاضت دموع العين مني صبابة إقامة للمسبب مقام السبب، لأن الفيض مسبب عن الامتلاء، فالأصل ترى أعينهم تمتلئ من الدمع حتى تفيض، لأن الفيض على جوانب الإناء ناشىء عن امتلائه، قال الشاعر:
وقد يملأ الماء الإناء فيفعم ويحتمل أنه أسند الفيض إلى الأعين على سبيل المبالغة في البكاء لما كانت تفاض فيها جعلت الفائضة بأنفسها على سبيل المجاز والمبالغة، و * (من) * في * (من الدمع) * قال أبو البقاء: فيه وجهان أحدهما: أن * (من) * لابتداء الغاية أي فيضها من كثرة الدموع والثاني: أن يكون حالا، والتقدير تفيض مملوءة من الدمع مما عرفوا من الحق، ومعناها من أجل الذي عرفوه، و * (من الحق) * حال من العائد المحذوف أو حال من ضمير الفاعل في عرفوا.
وقيل: * (من) * في * (من الدمع) * بمعنى الباء أي بالدمع.
وقال الزمخشري: * (من الدمع) * من أجل البكاء من قولك دمعت عينه دمعا.
(فإن قلت): أي فرق بين * (من) * * (ومن) * في قوله: * (مما عرفوا من الحق) * (قلت): الأول لابتداء الغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق، وكان من أجله وسببه، والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا، ويحتمل معنى
(٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 ... » »»