تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٤ - الصفحة ٦
هنا كما عطفوا في قوله: * (ولتجدنهم أحرص الناس على حيواة ومن الذين أشركوا) * واللام في * (لتجدن) * هي الملتقى بها القسم المحذوف.
وقال ابن عطية: هي لام الابتداء، وليس بمرضي، و * (الناس) * هنا الكفار، أي ولتجدن أشد الكفار عداوة.
* (ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا الذين قالوا إنا نصارى) * أي هم ألين عريكة وأقرب ودا. ولم يصفهم بالود إنما جعلهم أقرب من اليهود والمشركين، وهي أمة لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكرها عمرو بن العاص في صحيح مسلم، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه دينا وإيمانا، ويبغضون أهل الفسق، فإذا سالموا فسلمهم صاف، وإذا حاربوا فحربهم مدافعة، لأن شرعهم لا يأمرهم بذلك، وحين غلب الروم فارس سر رسول الله صلى الله عليه وسلم) لغلبة أهل الكتاب لأهل عبادة النار، ولإهلاك العدو الأكبر بالعدو الأصغر إذ كان مخوفا على أهل الإسلام، واليهود ليسوا على شيء من أخلاق النصارى، بل شأنهم الخبث واللي بالألسنة، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يترقب ما يغتالك به ألا ترى إلى ما حكى تعالى عنهم * (ذالك بأنهم قالوا ليس علينا فى الاميين سبيل) * وفي قوله تعالى: * (الذين قالوا إنا نصارى) * إشارة إلى أنهم ليسوا متمسكين بحقيقة النصرانية، بل ذلك قول منهم وزعم، وتعلق * (للذين ءامنوا) * الأول * (* بعداوة) * والثاني * (* بمودة) *. وقيل هما في موضع النعت ووصف العداوة بالأشد والمودة بالأقرب دليل على تفاوت الجنسين بالنسبة إلى المؤمنين، فتلك العداوة أشد العداوات وأظهرها، وتلك المودة أقرب وأسهل، وظاهر الآية يدل على أن النصارى أصلح حالا من اليهود وأقرب إلى المؤمنين مودة، وعلى هذا الظاهر فسر الآية على من وقفنا على كلامه.
قال بعضهم: وليس على ظاهره وإنما المراد أنهم أكثر أسباب مودة من اليهود، وذلك ذم لهم، فإن من كثرت أسباب مودته كان تركه للمودة أفحش، ولهذا قال أبو بكر الرازي: من الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحا للنصارى وإخبارا بأنهم خير من اليهود، وليس كذلك لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم) يدل عليه ما ذكره في نسق التلاوة من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله وبالرسول، ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أنعم في مقالتي الطائفتين أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة وأظهر فسادا من مقالة اليهود، لأن اليهود تقربا بالتوحيد في الجملة وإن كان فيها مشبهة ببعض ما اعتقدته في الجملة من التوحيد بالتشبيه؛ انتهى كلام أبي بكر الرازي والظاهر ما قاله المفسرون وغيره من أن النصارى على الجملة أصلح حالا من اليهود، وقد ذكر المفسرون فيما تقدم ما فضل به النصارى على اليهود من كرم الأخلاق، والدخول في الإسلام سريعا، وليس الكلام واردا بسبب العقائد، وإنما ورد بسبب الانفعال للمسلمين، وأما قوله لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول ليس كما ذكر، بل صدر الآية يقتضي العموم لأنه قال: * (أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا الذين قالوا إنا نصارى) * ثم أخبر أن من هذه الطائفة علماء وزهاد ومتواضعين وسريعي استجابة للإسلام وكثيري بكاء عند سماع القرآن، واليهود بخلاف ذلك والوجود يصدق قرب النصارى من المسلمين وبعد اليهود.
* (ذالك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) * الإشارة بذلك إلى أقرب المودة عليه، أي منهم علماء وعباد وأنهم قوم فيهم تواضع واستكانة، وليسوا مستكبرين واليهود على خلاف ذلك لم يكن فيهم قط أهل ديارات ولا صوامع وانقطاع عن الدنيا، بل هم معظمون متطاولون لتحصيلها حتى كأنهم لا يؤمنون بآخرة ولذلك لا يرى فيهم
(٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 ... » »»