تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٤ - الصفحة ٤٦٣
القتال وكانت قبل المطر تسوخ فيها الأرجل فلما نزل تلبدت قالوا فهذا معنى قوله ليطهركم به أي من الجنابات ويذهب عنكم رجز الشيطان أي عذابه لكم بوسواسه والرجز العذاب، وقيل رجزه كيده ووسوته، وقيل الجنابة من الاحتلام فإنها من الشيطان، وورد ما احتلم نبي قط إنما الاحتلام يكون من الشيطان، وقرأ عيسى بن عمرو يذهب بجزم الباء، وقرأ ابن محيصن رجز بضم الراء وأبو العالية رجس بالسين ومعنى الربط على القلب هو اجتماع الرأي والتشجيع على لقاء العدو والصبر على مكافحة العدو والربط الشد هو حقيقة في الأجسام فاستعير منها لما حصل في القلب من الشدة والطمأنينة بعد التزلزل، ومقتضى ذلك الربط قال ابن عباس الصبر، وقال مقاتل الإيمان، وقيل نزول المطر، وهو الظاهر، لأن قوله ليطهركم وما بعده تعليل لإنزال المطر والظاهر أن تثبيت الأقدام هو حقيقة لأن المكان الذي وقع فيه اللقاء كان رملا تغوص فيه الأرجل فلبده المطر حتى ثبتت عليه الأقدام والضمير في به عائد على المطر، وقيل التثبيت للأقدام معنوي والمراد به كونه لا يفر وقت القتال والضمير في به عائد على المصدر الدال عليه وليربط وانظر إلى فصاحة مجيء هذه التعليلات بدأ أولا منها بالتعليل الظاهر وهو تطهيرهم من الجنابة، وهو فعل جسماني أعني اغتسالهم من الجنابة، وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازم التطهير وهو إذهاب رجز الشيطان حيث وسوس إليهم بكونهم يصلون ولم يغتسلوا من الجنابة ثم عطف بلام العلة ما ليس بفعل جسماني، وهو فعل محله القلب، وهو التشجيع والاطمئنان والصبر على اللقاء وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازمه وهو كونهم لا يقرون وقت الحرب فحين ذكر التعليل الظاهر الجسماني والتعليل الباطن القلبي ظهر حرف التعليل وحين ذكر لازمها لم يؤكد بلام التعليل وبدأ أولا بالتطهير لأنه الآكد والأسبق في الفعل ولأنه الذي تؤدي به أفضل العبادات وتحيا به القلوب.
* (إذ يوحى ربك إلى الملئكة أني معكم فثبتوا الذين ءامنوا سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الاعناق) * هذا أيضا من تعدد النعم إذ الإيحاء إلى الملائكة بأنه تعالى معهم أي ينصرهم ويعينهم وأمرهم بتثبيت المؤمنين والإخبار بما يأتي بعد من إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم والأمر بالضرب فوق أعناقهم وكل بنان منهم من أعظم النعم، وفي ذلك إعلام بأن الغلبة والظفر والعاقبة للمؤمنين، وقال الزمخشري: إذ يوحى يجوز أن يكون بدلا ثالثا من إذ يعدكم وأن ينتصب بثبت، وقال ابن عطية: العامل في إذ العامل الأول على ما تقدم فيما قبلها ولو قدرناه قريبا لكان قوله ويثبت على تأويل عود الضمير على الربط وأما عوده على الماء فيمكن أن يعمل ويثبت في إذ انتهى وإنما يمكن ذلك عنده لاختلاف زمان التثبيت عنده وزمان هذا الوحي لأن زمان إنزال المطر وما تعلق به من تعاليله متقدم على تغشية النعاس والإيحاء كانا وقت القتال وهذا الوحي إما بإلهام وإما بإعلام، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف عنه إذ معكم الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين أو على إجراء يوحي مجرى تقول على مذهب الكوفيين والملائكة هم الذين أمد المؤمنون بهم، ولما كان ما تقدم من تعداد النعم على المؤمنين جاء الخطاب لهم بيغشاكم وينزل عليكم ويطهركم ويذهب رجز وليربط على قلوبكم إذ كان في هذه أشياء لا تناسب منصب الرسالة ولما ذكر الوحي إلى الملائكة أتى بخطاب الرسول وحده فقال إذ يوحى ربك ففي ذلك تشريف بمواجهته بالخطاب وحده أي مربيك والناظر في مصلحتك ويثبت الذين آمنوا. قال الحسن بالقتال أي فقاتلوا، وقال مقاتل بشروهم بالنصر فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل فيقول أبشروا فإن الله ناصركم وذكر الزجاج أنهم يثبتونهم بأشياء يلقونها في قلوب تقوى بها، وذكر الثعلبي ونحوه قال: صححوا عزائمهم ونياتهم على الجهاد، وقال ابن عطية نحوه قال: ويحتمل أيضا أن يكون التثبيت الذي أمر به ما يلقيه الملك في قلب الإنسان من توهم الظفر واحتقار الكفار ويجري عليه من خواطر تشجيعه ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله
(٤٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 458 459 460 461 462 463 464 465 466 467 468 ... » »»