المكذبين قبلهم، والاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم. وهدى وموعظة للمتقين يعني: أنه مع كونه بيانا وتنبيها للمكذبين فهو زيادة وتثبيت وموعظة للذين اتقوا من المؤمنين. ويجوز أن يكون قد خلت جملة معترضة للبعث على الإيمان، وما يستحق به ما ذكر من أجر العاملين. ويكون قوله: هذا بيان إشارة إلى ما لخص وبين من أمر المتقين والتائبين والمصرين انتهى كلامه. وهو حسن. ولما كان ظاهرا واضحا قال: بيان للناس. ولما كانت الموعظة والهدى لا يكونان إلا لمن اتقى خص بذلك المتقين، لأن من عمى فكره وقسا فؤاده لا يهتدي ولا يتعظ، فلا يناسب أن يضاف إليه العدى والموعظة.
* (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين) *. لما انهزم من انهزم من المؤمنين أقبل خالد يريد أن يعلو الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (لا يعلن علينا اللهم لا قوة لنا إلا بك) فنزلت قاله: ابن عباس. وزاد الواقدي: أن رماة المسلمين صعدوا الجبل ورموا بحبل المشركين حتى هزموهم، فذلك قوله: وأنتم الأعلون. وقال القرطبي: وأنتم الغالبون بعد أحد، فلم يخرجوا بعد ذلك إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهده عليه السلام، وفي كل عسكر كان بعد ولو لم يكن فيه إلا واحد من الصحابة. وقال الكلبي: نزلت بعد أحد حين أمروا بطلب القوم مع ما أصابهم من الجراح. وقال: لا يخرج إلا من شهد معنا أمس، فاشتد ذلك على المسلمين فنزلت. نهاهم عن أن يضعفوا عن جهاد أعدائهم، وعن الحزن على من استشهد من إخوانهم، فإنهم صاروا إلى كرامة الله قاله: ابن عباس. أو لأجل هزيمتهم وقتلهم يوم أحد قاله: مقاتل. أو لما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم) من شجه وكسر رباعيته ذكره: الماوردي. أو لما فات من الغنيمة ذكره: أحمد النيسابوري. أو لمجموع ذلك. وآنسهم بقوله: وأنتم الأعلون، أي الغالبون وأصحاب العاقبة. وهو إخبار بعلو كلمة الإسلام قاله: الجمهور، وهو الظاهر.
وقيل: * (أنتم * الاعلون) *، أي قد أصبتم ببدر ضعف ما أصابوا منكم بأحد أسرا وقتلا فيكون وأنتم الأعلون نصبا على الحال، أي لاتحزنوا عالين أي منصورين على عدوكم انتهى. وأما كونه من علوهم الجبل كما أشير إليه في سبب النزول فروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير. قال ابن عطية: ومن كرم الخلق أن لا يهن الإنسان في حربه وخصامه، ولا يلين إذا كان محقا، وأن يتقضى جميع قدرته، ولا يضرع ولو مات. وإنما يحسن اللين في السلم والرضا، ومنه قوله عليه السلام: (المؤمن هين لين والمؤمنون هينون لينون) وقال منذر بن سعيد: يجب بهذه الآية ألا يوادع العدو ما كانت للمسلمين قوة وشوكة، فإن كانوا في قطر ما على غير ذلك فينظر الإمام لهم في لا صلح انتهى.
وفي قوله: وأنتم الأعلون دلالة على فضيلة هذه الأمة، إذ خاطبهم مثل ما خاطب موسى كليمه صلى الله عليه وسلم) على نبينا وعليه، إذ قال له: لا تخف إنك أنت الأعلى. وتعلق قوله: إن كنتم مؤمنين بالنهي، فيكون ذلك هزا للنفوس يوجب قوة القلب والثقة بصنع الله، وقلة المبالاة بالأعداء. أو بالجملة الخبرية: أي إن صدقتم بما وعدكم وبشركم به من الغلبة. ويكون شرطا على بابه يحصل به الطعن على من ظهر نفاقه في ذلك اليوم، أي: لا تكون الغلبة والعلو إلا للمؤمنين، فاستمسكوا بالإيمان.
* (ءان * يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) * المعنى: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر، ثم لم يضعفوا إن قاتلوكم بعد ذلك، فلا تضعفوا أنتم. أو فقد مس القوم في غزوة أحد قبل مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) ونحوه، فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون. وهذه تسلية منه تعالى للمؤمنين والتأسي فيه أعظم مسلاة. وقالت الخنساء:
* ولولا كثرة الباكين حولي * على إخوانهم لقتلت نفسي *