تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٥٤
لهم الصلاة. وهو مذهب: ابن علية، وأبي يوسف. لأن الصلاة بإمامته لا عوض عنها، وغيره من العوض، فيصلي الناس بإمامين طائفة بعد طائفة. وقال الجمهور: الخطاب له يتناول الأمراء بعده، والضمير في: فيهم، عائد على الخائفين. وقيل: على الضاربين في الأرض. والظاهر أن صلاة الخوف لا تكون إلا في السفر، ولا تكون في الحضر، وإن كان خوف. وذهب إليه قوم. وذهب الجمهور إلى أن الحضر إذا كان خوف كالسفر.
ومعنى: فأقمت لهم الصلاة، أقمت حدودها وهيآتها. والذي يظهر أن المعنى فأقمت بهم. وعبر بالإقامة إذ هي فرض على المصلي في قول: عن ذلك. ومعنى: فلتقم هو من القيام، وهو الوقوف. وقيل: فلتقم بأمر صلاتها حتى تقع على وفق صلاتك، من قام بالأمر اهتم به وجعله شغله. والظاهر أن الضمير في: وليأخذوا أسلحتهم عائد على طائفة لقربها من الضمير، ولكونها لها فيما بعدها في قوله: فإذا سجدوا. وقيل: إن الضمير عائد على غيرهم، وهي الطائفة الحارسة التي لم تصل. وقال النحاس: يجوز أن يكون للجميع، لأنه أهيب للعدو: فإذا سجدوا أي: هذه الطائفة. ومعنى سجدوا: صلوا. وفيه دليل على أن السجود قد يعبر به عن الصلاة، ومنه: (إذا جاء أحدكم المسجد فليسجد سجدتين) أي فليصل ركعتين.
* (فليكونوا من ورائكم) *: ظاهره أن الضمير في فليكونوا عائد على الساجدين، والمعنى: أنهم إذا فرغوا من السجود انتقلوا إلى الحراسة فكانوا وراءكم. وقال الزمخشري: فليكونوا يعني: غير المصلين من ورائكم يحرسونكم، وجوز الوجهين ابن عطية، قال: يحتمل أن يكون الذين سجدوا، ويحتمل أن تكون الطائفة القائمة أولا بإزاء العدو. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: فلتقم بكسر اللام. وقرأ أبو حيوة: وليات بياء بثنتين تحتها على تذكير الطائفة، واختلف عن أبي عمرو، في إدغام التاء في الطاء. وفي قوله: فلتأت طائفة، دليل على أنهم انقسموا طائفتين: طائفة حارسة أولا، وطائفة مصلية أولا معه، ثم التي صلت أولا صارت حارسة، وجاءت الحارسة أولا فصلت معه. والظاهر أن الأمر بأخذ الأسلحة واجب، لأن فيه اطمئنان المصلي، وبه قال: الشافعي وأهل الظاهر. وذهب الأكثرون إلى الاستحباب.
ودلت هذه الكيفية التي ذكرت في هذه الآية على أن طائفة صلت مع الرسول صلى الله عليه وسلم) بعض صلاة، ولا دلالة فيها على مقدار ما صلت معه، ولا كيفية إتمامهم، وإنما جاء ذلك في السنة. ونحن نذكر تلك الكيفيات على سبيل الاختصار، لأنها مبينة ما أجمل في القرآن. الكيفية الأولى: صلت طائفة معه، وطائفة وجاه العدو، وثبتت قائمة حتى تتم صلاتهم ويذهبوا وجاه العدو، وجاءت هذه التي كانت وجاه العدو أولا فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسا حتى أتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم، وهذه كانت بذات الرقاع. الكيفية الثانية: كالأولى، إلا أنه حين صلى بالطائفة الأخيرة ركعة سلم، ثم قضت بعد سلامه. وهذه مروية في ذات الرقاع أيضا. الكيفية الثالثة: صف العسكر خلفه صفين، ثم كبر وكبروا جميعا، وركعوا معه، ورفعوا من الركوع جميعا، ثم سجد هو بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا سجد الآخرون في مكانهم، ثم تقدموا إلى مصاف المتقدمين وتأخر المتقدمون إلى مصاف المتأخرين، ثم ركعوا معه جميعا، ثم سجد فسجد معه الصف الذي يليه، فلما صلى سجد الآخرون، ثم سلم بهم جميعا. وهذه صلاته بعسفان والعدو في قبلته. الكيفية الرابعة: مثل هذا إلا أنه قال: ينكص الصف المتقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود، ويتقدم الآخر فيسجدون في مصاف الأولين
(٣٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 349 350 351 352 353 354 355 356 357 358 359 ... » »»