تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٥١٩
يؤتى، وداخلا في خبر إن، و: أحد، في هذين القولين ليس الذي يأتي في العموم مختصا به، لأن ذلك شرطه أن يكون في نفي، أو في خبر نفي، بل: أحد، هنا بمعنى: واحد، وهو مفرد، إذ عنى به الرسول صلى الله عليه وسلم)، وإنما جمع الضمير في: يحاجوكم، لأنه عائد على الرسول وأتباعه، لأن الرسالة تدل على الأتباع. وقال بعض النحويين: إن، هنا للنفي بمعنى: لا، التقدير: لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ونقل ذلك أيضا عن الفراء، وتكون: أو، بمعنى إلا، والمعنى إذ ذاك: لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا أن يحاجوكم، فإن إيتاءه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم ومحاجتكم عند ربكم، لأن من آتاه الله الوحي لا بد أن يحاجهم عند ربهم في كونهم لا يتبعونه، فقوله: أو يحاجوكم، حال من جهة المعنى لازمة، إذ لا يوحي الله إلى رسول إلا وهو محاج مخالفيه. وفي هذا القول يكون، أحد، هو الذي للعموم. لتقدم النفي عليه، وجمع الضمير في: يحاجوكم، حملا على معنى: أحد، كقوله تعالى * (فما منكم من أحد عنه حاجزين) * جمع حاجزين حملا على معنى: أحد، لا على لفظه، إذ لو حمل على لفظه لأفرد.
لكن في هذا القول القول بأن: أن، المفتوحة تأتي للنفي بمعنى لا، ولم يقم على ذلك دليل من كلام العرب. والخطاب في: أو يتتم، وفي: يحاجوكم، على هذه الأقوال الثلاثة للطائفة السابقة، القائلة: * (بالذي أنزل على) * وأجاز بعض النحويين أن يكون المعنى: أن لا يؤتى أحد، وحذفت: لا، لأن في الكلام دليلا على الحذف. قال كقوله: * (يبين الله لكم أن تضلوا) * أي: لا تضلوا. ورد ذلك أبو العباس، وقال: لا تحذف: لا، وإنما المعنى: كراهة أن تضلوا، وكذلك هنا: كراهة أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم، أي: ممن خالف دين الإسلام، لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين.
والخطاب في: أوتيتم، و: يحاجوكم، لأمة محمد صلى الله عليه وسلم)، فعلى هذا: أن يؤتى مفعول من أجله على حذف كراهة، ويحتاج إلى تقديره عامل فيه، ويصعب تقديره، إذ قبله جملة لا يظهر تعليل النسبة فيها بكراهة الإيتاء المذكور.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون قوله: أن يؤتى، بدلا من قوله: هدى الله، ويكون المعنى: قل إن الهدى هدى الله وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن. ويكون قوله: أو يحاجوكم، بمعنى: أو فليحاجوكم، فإنهم يغلبونكم. انتهى هذا القول. وفيه الجزم بلام الأمر وهي محذوفة ولا يجوز ذلك على مذهب البصريين إلا في الضرورة.
وقال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب: أن يؤتى، بفعل مضمر يدل عليه قوله * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) * كأنه قيل: * (قل إن الهدى هدى الله) * فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا. انتهى كلامه. وهو بعيد، لأن فيه حذف حرف النهي ومعموله، ولم يحفظ ذلك من لسانهم. وأجازوا أن يكون قوله * (أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم) * ليس داخلا تحت قوله: قل، بل هو من تمام قول الطائفة، متصل بقوله: * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) * ويكون قوله: * (هل أنبئكم * الهدى هدى الله) * جملة اعتراضية بين ما قبلها وما بعدها.
ويحتمل هذا القول وجوها:
أحدهما: أن يكون المعنى: ولا تصدقوا تصديقا صحيحا وتؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم، مخافة أن يؤتى أحد من النبوة والكرامة مثل ما أوتيتم، ومخافة أن يحاجوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم يستمروا عليه، وهذا القول، على هذا المعنى، ثمرة الحسد والكفر مع المعرفة بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم).
الثاني: أن يكون التقدير: أن لا يؤتى، فحذفت: لا، لدلالة الكلام، ويكون ذلك منتفيا داخلا في حيز: إلا، لا مقدرا دخوله قبلها، والمعنى: ولا تؤمنوا لأحد بشيء إلا لمن تبع دينكم، بانتفاء أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وانتفاء أن يحاجوكم عند ربكم أي: إلا بانتفاء كذا.
الثالث: أن يكون التقدير: بأن يؤتى، ويكون متعلقا بتؤمنوا، ولا يكون داخلا في حيز إلا، والمعنى: ولا تؤمنوا بأن
(٥١٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 514 515 516 517 518 519 520 521 522 523 524 ... » »»