تقديره: فعلنا ذلك، وتكون الباء في بأن الله متعلقة بذلك الفعل المحذوف. وقيل: مرفوع، واختلفوا، أهو فاعل، والتقدير: وجب ذلك لهم؟ أم خبر مبتدأ محذوف، التقدير: الأمر ذلك؟ أي ما وعدوا به من العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق. فاختلفوا، أم مبتدأ، والخبر قوله: * (بأن الله نزل) *؟ أي ذلك مستقر ثابت بأن الله نزل الكتاب بالحق، ويكون ذلك إشارة إلى أقرب مذكور، وهو العذاب، ويكون الخبر ليس مجرد تنزيل الله الكتاب بالحق، بل ما ترتب على تنزيله من مخالفته وكتمانه، وأقام السبب مقام المسبب. والتفسير المعنوي: ذلك العذاب حاصل لهم بكتمان ما نزل الله من الكتاب المصحوب بالحق، أو الكتاب الذي نزله بالحق. وقال الأخفش: الخبر محذوف تقديره: ذلك معلوم بأن الله، فيتعلق الباء بهذا الخبر المقدر، والكتاب التوراة والإنجيل، أو القرآن، أو كتب الله المنزلة على أنبيائه، أو ما كتب عليهم من الشقاوة بقوله: * (صم بكم عمى) *، فيكون الكتاب بمعنى الحكم والقضاء، أقوال أربعة. بالحق، قال ابن عباس: بالعدل. وقال مقاتل: ضد الباطل. وقال مكي: بالواجب، وحيثما ذكر بالحق فهو الواجب.
* (وإن الذين اختلفوا فى الكتاب) *، قيل: هم اليهود، والكتاب: التوراة، واختلافهم: كتمانهم بعث عيسى، ثم بعث محمد صلى الله عليه وسلم). آمنوا ببعض، وهو ما أظهروه، وكفروا ببعض، وهو ما كتموه. وقيل: هم اليهود والنصارى، قاله السدي؛ واختلاف كفرهم بما قصه الله تعالى من قصص عيسى وأمه عليهما السلام، وبإنكار الإنجيل، ووقع الاختلاف بينهم حتى تلاعنوا وتقاتلوا. وقيل: كفار العرب، والكتاب: القرآن. قال بعضهم: هو سحر، وبعضهم: هو أساطير الأولين، وبعضهم: هو مفترى إلى غير ذلك. وقيل: أهل الكتاب والمشركون. قال أهل الكتاب: إنه من كلام محمد صلى الله عليه وسلم)، وليس هو من كلام الله. وقالوا: إنما يعلمه بشر، وقالوا: دارست، وقالوا: إن هذا إلا اختلاق، إلى غير ذلك. وقال المشركون: بعضهم قال: سحر، وبعضهم: شعر، وبعضهم: كهانة، وبعضهم: أساطير، وبعضهم: افتراء إلى غير ذلك. والظاهر الإخبار عمن صدر منهم الاختلاف فيما أنزل الله من الكتاب بأنهم في معاداة وتنافر، لأن الاختلاف مظنة التباغض والتباين، كما أن الائتلاف مظنة التحاب والاجتماع. وفي المنتخب: الأقرب، حمل الكتاب على التوراة والإنجيل اللذين ذكرت البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم) فيهما، لأن القوم قد عرفوا ذلك وكتموه، وعرفوا تأويله. فإذا أورد تعالى ما يجري مجرى العلة في إنزال العقوبة به، فالأقرب أن يكون المراد كتابهم الذي هو الأصل عندهم، دون القرآن. انتهى كلامه.
* (لفى شقاق بعيد) *: تقدم أن ذلك إما مأخوذ من كون هذا يصير في شق وهذا في شق، أو من كون هذا يشق على صاحبه. وكنى بالشقاق عن العداوة، ووصف الشقاق بالبعد، إما لكونه بعيدا عن الحق، أو لكونه بعيدا عن الألفة. أو كنى به عن الطول، أي في معاداة طويلة لا تنقطع. وهذا الاختلاف هو سبب اعتقاد كل طائفة أن كتابها هو الحق، وأن غيره افتراء، وقد كذبوا في ذلك. كتب الله يشبه بعضها بعضا، ويصدق بعضها بعضا.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نداء الناس ثانيا، وأمرهم بالأكل من الحلال الطيب، ونهيهم عن اتباع الشيطان، وذكر خطواته، كأنهم يقتفون آثاره، ويطؤون عقبه. فكلما خطا خطوة، وضعوا أقدامهم عليها، وذلك مبالغة في اتباعه. ثم بين أنه إنما نهاهم عن اتباعه، لأنه هو العدو المظهر لعداوته. ثم لم يكتف بذكر العداوة حتى ذكر أنه يأمرهم بالمعاصي. ولما كان لهم متبوعا وهم تابعوه، ناسب ذكر الأمر، إذ هم ممتثلون ما زين لهم ووسوس. ثم ذكر ما به أمرهم، وهو أمره إياهم بالافتراء على الله، والإخبار عن الله بما لا يعلمونه عن الله، ثم ذكر شدة إعراضهم عما أنزل الله، واقتفاء اتباع آبائهم، حتى أنهم لو كان آباؤهم مسلوبي العقل والهداية، لكانوا متبعيهم، مبالغة في التقليد البحت والإعراض عن كتاب الله، وجريا لخلفهم على سلف سننهم، من غير نظر ولا استدلال.
ثم ذكر أن مثل الكفار وداعيهم إلى ما أنزل الله، مثل الناعق بما لا يسمع إلا مجرد ألفاظ. ثم ذكر ما هم عليه من الصمم والبكم والعمي، التي هي مانعة من وصول العلوم إلى الإنسان، فلذلك ختم بقوله * (فهم لا يعقلون) *، لأن