تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٦٦٨
الأزكياء، أو لا ينزلهم منزلة الأزكياء. وقيل: المعنى لا يصلح أعمالهم الخبيثة. وقيل: المعنى لا يثني عليهم من قولهم: زكى فلانا، إذ أثنى عليه، قاله الزجاج. وقيل: لا يطهرهم من دنس كفرهم، وهو معنى قول بعضهم: لا يطهرهم من موجبات العذاب، قاله ابن جرير. وقيل: المعنى لا يسميهم أزكياء.
* (ولهم عذاب أليم) *: هذا هو الخبر الرابع لأولئك، وقد تقدم تفسير قوله: * (ولهم عذاب أليم) *، في أول السورة. وترتب على الكتمان واشتراء الثمن القليل هذه الأخبار الأربعة، وانعطفت بالواو الجامعة لها. وعطف الأخبار بالواو، ولا خلاف في جوازه، بخلاف أن لا تكون معطوفة، فإن في ذلك خلافا وتفصيلا. وناسب ذكر هذه الأخبار ما قبلها، ومناسب عطف بعضها على بعض، لما تذكره فنقول: متى ذكر وصف ورتب عليه أمر، فللعرب فيه طريقان: أحدهما: أن تكون تلك الأمور المترتبة على الأوصاف مقابلة لها، الأول منها لأول تلك الأوصاف، والثاني للثاني، فتحصل المقابلة من حيث المعنى ومن حيث الترتيب اللفظي، حيث قوبل الأول بالأول، والثاني بالثاني. وتارة يكون الأول من تلك الأمور مجاورا لما يليه من تلك الأوصاف، فتحصل المقابلة من حيث المعنى، لا من حيث الترتيب اللفظي، وهذه الآية جاءت من هذا القبيل.
لما ذكر تعالى اشتراءهم الثمن القليل، وكان ذلك كناية عن مطاعمهم الخسيسة الفانية، بدأ أولا في الخبر بقوله: * (ما يأكلون في بطونهم إلا النار) *. ثم قابل تعالى كتمانهم الدين والكتمان، هو أن لا يتكلموا به بل يخفوه بقوله تعالى: * (ولا يكلمهم الله) *، فجوزوا على منع التكلم بالدين أن منعوا تكليم الله إياهم، وابتنى على كتمانهم الدين، واشترائهم بما أنزل الله ثمنا قليلا، أنهم شهود زور وأخبار سوء، حيث غيروا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وادعوا أن النبي المبتعث هو غير هذا، فقوبل ذلك كله بقوله: * (ولا يزكيهم) *. ثم ذكر أخيرا ما أعد لهم من العذاب الأليم، فرتب على اشتراء الثمن القليل قوله: * (ما يأكلون في بطونهم إلا النار) *، وعلى الكتمان قوله: * (ولا يكلمهم الله) *، وعلى مجموع الوصفين قوله: * (ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) *. فبدأ أولا: بما يقابل فردا فردا، وثانيا: بما يقابل المجموع. ولما كانت الجملة الأولى مشتملة على فعل مسند إلى الله، كان الكلام الذي قابلها فيه فعل مسند إلى الله. ولما كانت الثانية مسندة إليهم، ليس فيها إسناد إلى الله، جاءت الجملة المقابلة لها مسندة إليهم، ولم يأت ما يطعمهم الله في بطونهم إلا النار. وناسب ذكر هذه الآية ما قبلها، لأنه تعالى ذكر في الآية قبلها إباحة الطيبات، ثم فصل أشياء من المحرمات، فناسب أن يذكر جزاء من كتم شيئا من دين الله، ومما أنزله على أنبيائه، فكان ذلك تحذيرا أن يقع المؤمنون فيما وقع فيه أهل الكتاب، من كتم ما أنزل الله عليهم واشترائهم به ثمنا قليلا.
* (أولائك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) *، أولئك: اسم إشارة إلى الكاتمين الذين سبق ذكرهم، وذكر ما أوعدوا به، وتقدم تفسير: * (أولائك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) * مستوعبا في أول السورة، فأغنى عن إعادته. * (والعذاب بالمغفرة) *: لما قدم حالهم في الدنيا، بأنهم اعتاضوا من الهدى الضلالة، ذكر نتيجة ذلك في الآخرة، وهو أنهم اعتاضوا من المغفرة التي هي نتيجة الهدى. وسبب النعم الأطول السرمدي، العذاب الأطول السرمدي، الذي هو نتيجة الضلالة، لأنهم لما كانوا عالمين بالحق، وكتموه لغرض خسيس دنياوي. فإن كان ذلك اشتراء للعذاب بالمغفرة. وفي لفظ اشتروا إشعار بإيثارهم الضلالة والعذاب، لأن الإنسان لا يشتري إلا ما كان له فيه رغبة ومودة. واختيار وذلك يدل على نهاية الخسارة، وعدم النظر في العواقب.
* (فما أصبرهم على النار) *: اختلف في ما، فالأظهر أنها تعجبية، وهو قول الجمهور من المفسرين. وقد جاء: * (قتل الإنسان ما أكفره) *، * (أسمع بهم وأبصر) *. وأجمع النحويون على أن ما التعجبية في موضع رفع بالابتداء واختلفوا، أهي نكرة تامة والفعل بعدها في موضع الخبر؟ أو استفهامية صحبها معنى التعجب والفعل بعدها في موضع الخبر؟ أو موصولة والفعل بعدها صلة والخبر محذوف؟ أو موصوفة والفعل بعدها صفة والخبر محذوف؟ أقوال أربعة ذكرت في النحو. الأول قول سيبويه والجمهور، والثاني قول الفراء وابن درستويه، والثالث
(٦٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 662 663 664 665 666 667 668 669 670 671 672 » »»