المبعوث منهم. فلما بعث من غيرهم، غيروا صفته وقالوا: هذا نعت النبي الذي يخرج في آخر الزمان، حتى لا يتبعوه. وروي عنه أنه قال: إن الملوك سألوا علماءهم قبل المبعث: ما الذي تجدون في التوراة؟ فقالوا: نجد أن الله يبعث نبيا من بعد المسيح يقال له محمد، بتحريم الربا والخمر والملاهي وسفك الدماء. فلما بعث، قالت الملوك لليهود: هذا الذي تجدونه في كتابكم؟ فقالوا، طمعا في أموال الملوك: ليس هذا بذلك النبي. فأعطاهم الملوك الأموال، فأنزلت إكذابا لهم. وقيل: نزلت في كل كاتم حق، لأخذ غرض أو إقامة غرض من مؤمن ويهودي ومشرك ومعطل. وإن صح سبب نزول، فهي عامة، والحكم للعموم. وإن كان السبب خاصا، فيتناول من علماء المسلمين من كتم الحق مختارا لذلك، لسبب دنيا يصيبها.
ما أنزل الله من الكتاب: ظاهره أنه أنزل من علو إلى أسفل، وأنه تعالى أنزل ملكا به، أي بالكتاب على رسوله. وقيل: معنى أنزل الله، أي أظهر، كقوله: * (سأنزل مثل ما أنزل الله) *، أي أظهر. فكون المعنى: أن الذين يكتمون ما أظهر الله، فيكون الإظهار في مقابلة الكتمان. وفي المراد بالكتاب هنا أقوال: أحدها: أنه التوراة، فيكون الكاتمون أحبار اليهود، كتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم) وغيروها، وكتموا آيات في التوراة، كآية الرجم وشبه ذلك. وقيل: التوراة والإنجيل، ووحد اللفظ على المكتوب، ويكون الكاتمون اليهود والنصارى. وصف الله نبيه في الكتابين، ونعته فيهما وسماه فقال: * (يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل) *، وقال: * (ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد) *. والطائفتان أنكروا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقد شهدت التوراة والإنجيل بذلك، والنصوص موجودة فيهما، الآن في مواضع منها في التوراة في الفصل التاسع، وفي الفصل العاشر من السفر الأول، وفي الفصل العشرين من السفر الخامس. ومنها في الإنجيل مواضع تدل على ذلك، قد ذكر جميعها، من تعرض للكلام على ذلك. وقيل: الكتاب المكتوب، وهو أعم من التوراة والإنجيل، فيتناول كل من كتم ما أنزل الله مما يتعلق بالأحكام قديما وحديثا، وكل كاتم لحق وساتر لأمر مشروع.
* (ويشترون به ثمنا قليلا) *: لما تعوضوا عن الكتم شيئا من سحت الدنيا، أشبه ذلك البيع والشراء، لانطوائهما على عوض ومعوض عنه، فأطلق عليه اشتراء. وبه: الضمير عائد على الكتمان، أو الكتاب، أو على الموصول الذي هو: ما أقوال ثلاثة، أظهرها الآخر، ويكون على حذف مضاف، أي بكتم ما أنزل الله به. والفرق بين هذا القول وقول من جعله عائدا على الكتم، أنه يكون في ذلك القول عائدا على المصدر المفهوم من قوله: * (يكتمون) *، وفي هذا عائدا على ما على حذف مضاف، وتقدم الكلام في تفسير قوله: * (ليشتروا به ثمنا قليلا) *، فأغنى عن إعداته، إلا فعل الاشتراء جعل علة هناك وهنا جعل معطوفا على قوله (يكتمون) ورتب الخبر على مجموع الأمرين من الكتم والاشتراء، لأن الكتم ليست أسبابه منحصرة في الاشتراء، بل الاشتراء بعض أسبابه. فكتم ما أنزل الله من الكتاب، وهو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وإنكار نبوته وتبديل صفته، كان لأمور منها البغي، * (بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده) *. ومنها الخسارة، لكونه من العرب لا منهم. ومنها طلب الرياسة، وأن يستتبعوا أهل ملتهم. ومنها تحصيل أموالهم ورشاء ملوكهم وعوامهم.
* (أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار) *: أتى بخبر إن جملة، لأنها أبلغ من المفرد، وصدر بأولئك، إذ هو اسم إشارة دال على اتصاف المخبر عنه بالأوصاف السابقة. وقد تقدم لنا الكلام في ذلك في قوله: * (أولائك على هدى من ربهم) *. ثم أخبر عن أولئك بأخبار أربعة: الأول: * (ما يأكلون في بطونهم إلا النار) *، فمنهم من حمله على ظاهره وقال: إن ذلك يكون في الدنيا، وإن الرشاء التي هم يأكلونها تصير في أجوافهم نارا، فلا يحسون بها إلا بعد الموت. ومنع تعالى أن يدركوا أنها نار، استدراجا وإملاء لهم. ويكون في هذا المعنى بعض تجوز، لأنه حالة الأكل لم يكن نارا، إنما بعد