تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤١٥
هزوا) *، قرأ حمزة، وإسماعيل، وخلف في اختياره، والقزاز، عن عبد الوارث والمفضل، بإسكان الزاي. وقرأ حفص: بضم الزاي والواو بدل الهمز. وقرأ الباقون: بضم الزاي والهمزة، وفيه ثلاث لغات التي قرىء بها، وانتصابه على أنه مفعول ثان لقوله: * (أتتخذنا هزوا) *، فإما أن يريد به اسم المفعول، أي مهزوأ، كقوله: درهم ضرب الأمير، وهذا خلق الله، أو يكون أخبروا به على سبيل المبالغة، أي أتتخذنا نفس الهزو، وذلك لكثرة الاستهزاء ممن يكون جاهلا، أو على حذف مضاف، أي مكان هزء، أو ذوي هزء، وإجابتهم نبيهم حين أخبرهم عن أمر الله بأن يذبحوا بقرة، بقولهم: * (أتتخذنا هزوا) * دليل على سوء عقيدتهم في نبيهم وتكذيبهم له، إذ لو علموا أن ذلك إخبار صحيح عن الله تعالى، لما كان جوابهم إلا امتثال الأمر، وجوابهم هذا كفر بموسى. وقال بعض الناس: كانوا مؤمنين مصدقين، ولكن جرى هذا على نحو ما هم عليه من غلظ الطبع والجفاء والمعصية. والعذر لهم أنهم لما طلبوا من موسى تعيين القاتل فقال لهم: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا) *، رأوا تباين ما بين السؤال والجواب وبعده، فتوهموا أن موسى داعبهم، وقد لا يكون أخبرهم في ذلك الوقت بأن القتيل يضرب ببعض البقرة المذبوحة فيحيا ويخبر بمن قتله، أو يكون أخبرهم بذلك، فتعجبوا من إحياء ميت ببعض ميت، فظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء. وقيل: في الكلام محذوف تقديره: آلله أمرك أن تتخذنا هزوا؟ وقيل: هو استفهام حقيقة ليس فيه إنكار، وهو استفهام استرشاد لا استفهام إنكار وعناد.
* (قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) *، لما فهم موسى عليه السلام عنهم أن تلك المقالة التي صدرت عنهم إنما هي لاعتقادهم فيها أنه أخبر عن الله بما لم يأمر به، استعاذ بالله وهو الذي أخبر عنه، أن يكون من الجاهلين بالله، فيخبر عنه بأمر لم يأمر به تعالى، إذ الإخبار عن الله تعالى بما لم يخبر به الله إنما يكون ذلك من الجهل بالله تعالى. وقوله: من الجاهلين، فيه تصريح أن ثم جاهلين، واستعاذ بالله أن يكون منهم، وفيه تعريض أنهم جاهلون، وكأنه قال: أن أكون منكم، لأنهم جوزوا على من هو معصوم من الكذب، وخصوصا في التبليغ، عن الله أن يخبر عن الله بالكذب. قالوا: والجهل بسيط، ومركب البسيط: عام وخاص. العام: عدم العلم بشيء من المعلومات، والخاص: عدم العلم ببعض المعلومات، والمركب: أن يجهل، ويجهل أنه يجهل. فالعام والمركب لا يوصف بهما من له بعض علم، فضلا عن نبي شرف بالرسالة والتكليم، وذلك مستحيل عليه، فيستحيل أن يستعيذ منه إلا على سبيل الأدب. فالذي استعاذ منه موسى هو خاص، وهو المفضي إلى أن يخبر عن الله تعالى مستهزئا، أو المقابل لجهلهم. فقالوا: أتتخذنا هزوا لمن يخبرهم عن الله، أو معناه الاستهزاء بالمؤمنين. فإن ذلك جهل، أو من الجاهلين بالجواب، لا على وفق السؤال، إذ ذاك جهل، والأمر من تلقاء نفسي، وأنسبه إلى الله، والخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء، فإن ذلك جهل. وهذه الوجوه الستة مستحيلة على موسى. قيل: وإنما استعاذ منها بطريق الأدب، كما استعاذ نوح عليه السلام * (أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم) *، وكما في: * (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين) *، وإنما قالوا ذلك بطريق الأدب مع الله والتواضع له.
* (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى) *، لما قال لهم موسى: * (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) *، وعلموا أن ما أخبرهم به موسى من أمر الله إياهم بذبح البقرة كان عزيمة وطلبا، جاز ما قالوا له ذلك، وهذا القول أيضا فيه تعنيت منهم وقلة طواعية، إذ لو امتثلوا فذبحوا بقرة، لكانوا قد أتوا بالمأمور، ولكن شددوا، فشدد الله عليهم، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما. وكسر العين من ادع لغة بني عامر، وقد سبق ذكر ذلك في * (فادع لنا ربك يخرج لنا) *، وجزم يبين على جواب الأمر. وما هي: مبتدأ وخبر. وقرأ عبد الله: سل لنا ربك يبين ما هي، ومفعول يبين: هي الجملة من المبتدأ والخبر، والفعل معلق، لأن معنى يبين لنا يعلمنا ما هي، لأن التبيين يلزمه الإعلام، والضمير في هي عائد على البقرة السابق ذكرها،
(٤١٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 410 411 412 413 414 415 416 417 418 419 420 ... » »»