تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٢٢١
فإذا كان ذلك لغة، وقد حكوا تصريف الكلمة عليه، لم يكن من باب المقلوب خلافا لمن ذهب إلى ذلك، ونقل القلب عن جمهور أهل اللغة. ويقال: صعقته وأصعقته الصاعقة، إذا أهلكته، فصعق: أي هلك. والصاعقة أيضا العذاب على أي حال كان، قاله ابن عرفة، والصاعقة والصاقعة: إما أن تكون صفة لصوت الرعد أو للرعد، فتكون التاء للمبالغة نحو: راوية وإما أن تكون مصدرا، كما قالوا في الكاذبة. الحذر، والفزع، والفرق، والجزع، والخوف: نظائر الموت، عرض يعقب الحياة. وقيل: فساد بنية الحيوان، وقيل: زوال الحياة. الإحاطة: حصر الشيء بالمنع له من كل جهة، والثلاثي منه متعد، قالوا: حاطه، يحوطه، حوطا.
أو كصيب: معطوف على قوله: * (كمثل الذى استوقد) *، وحذف مضافان، إذ التقدير: أو: كمثل ذوي صيب، نحو قوله تعالى: * (كالذى يغشى عليه من الموت) *، أي كدوران عين الذي يغشى عليه. وأو هنا للتفصيل، وكان من نظر في حالهم منهم من يشبهه بحال المستوقد، ومنهم من يشبهه بحال ذوي صيب، ولا ضرورة تدعو إلى كون أو للتخيير. وأن المعنى أيهما شئت مثلهم به، وإن كان الزجاج وغيره ذهب إليه، ولا إلى أن أو للإباحة، ولا إلى أنها بمعنى الواو، كما ذهب إليه الكوفيون هنا. ولا إلى كون أو للشك بالنسبة للمخاطبين، إذ يستحيل وقوعه من الله تعالى، ولا إلى كونها بمعنى بل، ولا إلى كونها للإبهام، لأن التخيير والإباحة إنما يكونان في الأمر أو ما في معناه. وهذه الجملة خبرية صرف. ولأن أو بمعنى الواو، أو بمعنى بل، لم يثبت عند البصريين، وما استدل به مثبت ذلك مؤول، ولأن الشك بالنسبة إلى المخاطبين، أو الإبهام بالنسبة إليهم لا معنى له هنا، وإنما المعنى الظاهر فيها كونها للتفصيل. وهذا التمثيل الثاني أتى كاشفا لحالهم بعد كشف الأول. وإنما قصد بذلك التفصيل والإسهاب بحال المنافق، وشبهه في التمثيل الأول بمستوقد النار، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع جدواه بذهاب النور. وشبه في الثاني دين الإسلام بالصيب وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق، وما يصيبهم من الإفزاع والفتن من جهة المسلمين بالصواعق، وكلا التمثيلين من التمثيلات المفرقة، كما شرحناه.
والأحسن أن يكون من التمثيلات المركبة دون المفرقة، فلا تتكلف مقابلة شيء بشيء، وقد تقدم الإشارة إلى ذلك عند الكلام على التمثيل الأول، فوصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما حبطوا فيه من الحيرة والدهشة بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل، وبحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق، وإنما قدر كمثل ذوي صيب لعود الضمير في يجعلون. والتمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر، ولذلك أخر فصار ارتقاء من الأهون إلى الأغلظ. وقد رام بعض المفسرين ترتب أحوال المنافقين وموازنتها في المثل من الصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق، فقال: مثل الله القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال، وعما هم بالظلمات والوعيد والزجر بالرعد والنور والحجج الباهرة التي تكاد أحيانا أن تبهرهم بالبرق وتخوفهم بجعل أصابعهم، وفضح نفاقهم وتكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوها بالصواعق، وهذا قول من ذهب إلى أنه من التمثيل المفرق الذي يقابل منه شيء شيئا من الممثل، وستأتي بقية الأقوال في ذلك، إن شاء الله تعالى. وقرئ: أو كصايب، وهو اسم فاعل من صاب يصوب وصيب، أبلغ من صايب، والكاف في موضع رفع لأنها
(٢٢١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 216 217 218 219 220 221 222 223 224 225 226 ... » »»