السماء رعدا وبرقت برقا، روعي حكم أصلهما وإن كان المعنى على الجمع، كما قالوا: رجل خصم، ونكرت ظلمات ورعد وبرق، لأن المقصود ليس العموم، إنما المقصود اشتمال الصيب على ظلمات ورعد وبرق.
والضمير في يجعلون عائد على المضاف المحذوف للعلم به، لأنه إذا حذف، فتارة يلتفت إليه حتى كأنه ملفوظ به فتعود الضمائر عليه كحاله مذكورا، وتارة يطرح فيعود الضمير الذي قام مقامه. فمن الأول هذه الآية وقوله تعالى: * (أو كظلمات فى بحر لجى يغشاه موج من فوقه) *، التقدير، أو كذي ظلمات، ولذلك عاد الضمير المنصوب عليه في قوله: يغشاه. ومما اجتمع فيه الالتفات والاطراح قوله تعالى: * (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون) * المعنى من أهل قرية فقال: فجاءها، فأطرح المحذوف وقال: أو هم، فالتفت إلى المحذوف. والجملة من قوله: يجعلون لا موضع لها من الإعراب، لأنها جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل: يجعلون، وقيل: الجملة لها موضع من الإعراب وهو الجر لأنها في موضع الصفة لذوي المحذوف، كأنه قيل: جاعلين، وأجاز بعضهم أن تكون في موضع نصب على الحال من الضمير الذي هو الهاء في فيه. والراجع على ذي الحال محذوف ثابت الألف واللام عنه التقدير من صواعقه.
وأراد بالأصابع بعضها، لأن الأصبع كلها لا تجعل في الأذن، إنما تجعل في الأنملة، لكن هذا من الاتساع، وهو إطلاق كل على بعض، ولأن هؤلاء لفرط ما يهولهم من إزعاج الصواعق كأنهم لا يكتفون بالأنملة، بل لو أمكنهم السد بالأصبع كلها لفعلوا، وعدل عن الاسم الخاص لما يوضع في الأذن إلى الاسم العام، وهو الأصبع، لما في ترك لفظ السبابة من حسن أدب القرآن، وكون الكنايات فيه تكون بأحسن لفظ، لذلك ما عدل عن لفظ السبابة إلى المسبحة والمهللة وغيرها من الألفاظ المستحسنة، ولم تأت بلفظ المسبحة ونحوها لأنها ألفاظ مستحدثة، لم يتعارفها الناس في ذلك العهد، وإنما أحدثت بعد.
وقرأ الحسن: من الصواقع، وقد تقدم أنها لغة تميم، وأخبرنا أنها ليست من المقلوب، والجعل هنا بمعنى الإلقاء والوضع كأنه قال: يضعون أصابعهم، ومن تتعلق بقوله يجعلون، وهي سببية، أي من أجل الصواعق وحذر الموت مفعول من أجله، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه، إذ هو مصدر متحد بالعامل فاعلا وزمانا، هكذا أعربوه، وفيه نظر لأن قوله: من الصواعق هو في المعنى مفعول من أجله، ولو كان معطوفا لجاز، كقول الله تعالى: * (ابتغاء مرضات الله) * وتثبيتا من أنفسهم، وقول الراجز:
* يركب كل عاقر جمهور * مخافة وزعل المحبور * والهول من تهول الهبور وقالوا أيضا: يجوز أن يكون مصدرا، أي يحذرون حذر الموت، وهو مضاف للمفعول. وقرأ قتادة، والضحاك بن مزاحم، وابن أبي ليلى: حذار الموت، وهو مصدر حاذر، قالوا وانتصابه على أنه مفعول له.
الإحاطة هنا: كناية عن كونه تعالى لا يفوتونه، كما لا يفوت المحاط المحيط به، فقيل: العلم وقيل: بالقدرة، وقيل: بالإهلاك. وهذه الجملة اعتراضية لأنها دخلت بين هاتين الجملتين اللتين هما: يجعلون أصابعهم، * (يريكم البرق) *، وهما من قصة واحدة. وقد تقدم لنا أن هذا التمثيل من التمثيلات المركبة، وهو الذي تشبه فيه إحدى الجملتين بالأخرى في أمر من الأمور، وإن لم يكن آحاد إحدى الجملتين شبيهة بآحاد الجملة الأخرى، فيكون المقصود تشبيه