تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٢٠٧
لما تحققوا وارتجوا من العوائد الدنيوية والأخروية. ألا ترى إلى قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقولهم: * (وما نحن بمعذبين) *. وكانت اليهود تزعم أنهم لا يعذبون إلا أياما معدودة، وبعضهم يقول يوما واحدا، وبعضهم عشرا، وكل طائفة من الكفار تزعم أنها على الحق وأن غيرها على الباطل. فلحصول الراحة الدنيوية ورجاء الراحة الأخروية، سمى اشتراءهم الضلالة بالهدى تجارة، ونفى الله تعالى عنهم كونهم مهتدين. وهل المعنى ما كانوا في علم الله مهتدين، أو مهتدين من الضلالة، أو للتجارة الرابحة، أو في اشتراء الضلالة، أو نفي عنهم الهداية والربح، لأن من التجار من لا يربح في تجارته ويكون على هدى، وعلى استقامة، وهؤلاء جمعوا بين نفي الربح والهداية. والذي أختاره أن قوله تعالى: * (وما كانوا مهتدين) * إخبار بأن هؤلاء ما سبقت لهم هداية بالفعل لئلا يتوهم من قوله: بالهدى، أنهم كانوا على هدى فيما مضى، فبين قوله: * (وما كانوا مهتدين) * مجاز قوله: بالهدى، ودل على أن الذي اعتاضوا الضلالة به إنما هو التمكن من إدراك الهدى، فالمثبت في الاعتياض غير المنفى أخيرا، لأن ذاك بالقوة وهذا بالفعل. وانتصاب مهتدين على أنه خبر كان، فهو منصوب بها وحدها خلافا لمن زعم أنه منصوب بكان والاسم معا، وخلافا لمن زعم أن أصل انتصابه على الحال، وهو الفراء، قال: لشغل الاسم برفع كان، إلا أنه لما حصلت الفائدة من جهته كان حالا خبرا فأتى معرفة، فقيل: كان أخوك زيدا تغليبا للخير، لا للحال.
وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات أقوالا: أحدها: أنها نزلت في المنافقين. الثاني: في قوم أعلم الله بوصفهم قبل وجودهم، وفيه إعلام بالمغيبات. الثالث: في عبد الله بن أبي وأصحابه نزل: * (وإذا لقوا الذين ءامنوا) * والتي قبلها في جميع المنافقين، وذكروا ما معناه: أنه لقي نفرا من المؤمنين، فقال لأصحابه: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فذكر أنه مدح وأثنى على أبي بكر وعمر وعلي، فوبخه علي وقال له: لا تنافق، فقال: ألي تقول هذا، والله إن إيماننا كإيمانكم، ثم افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا. وقد تقدمت أقاويل غير هذه الثلاثة في غضون الكلام قبل هذا.
2 (* (مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلمآ أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمى فهم لا يرجعون) *)) 2 * (مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) *: المثل في أصل كلام العرب بمعنى المثل والمثيل، كشبه وشبه وشبيه، وهو النظير، ويجمع المثل والمثل على أمثال. قال اليزيدي: الأمثال: الأشباه، وأصل المثل الوصف، هذا مثل كذا، أي وصفه مسا ولو صف الآخر بوجه من الوجوه. والمثل: القول السائر الذي فيه غرابة من بعض الوجوه. وقيل: المثل، ذكر وصف ظاهر محسوس وغير محسوس، يستدل به علي وصف مشابه له من بعض الوجوه، فيه نوع من الخفاء ليصير في الذهن مساويا للأول في الظهور من وجه دون وجه. والمقصود من ذكر المثل أنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، لأن الغرض من ضرب المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكد الوقوف على ماهيته ويصير الحس مطابقا للعقل. والذي: اسم موصول للواحد المذكر، ونقل عن أبي علي أنه مبهم يجري مجرى من في وقوعه على الواحد والجمع. وقال الأخفش: هو مفرد، ويكون في معنى الجمع، وهذا شبيه بقول أبي علي، وقال صاحب التسهيل فيه، وقد ذكر الذين، قال: ويغني عنه الذي في غير تخصيص كثيرا وفيه للضرورة قليلا وأصحابنا يقولون: يجوز أن تحذف النون من الذين فيبقي الذي، وإذا كان الذي لمفرد فسمع تشديد الياء فيه
(٢٠٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 202 203 204 205 206 207 208 209 210 211 212 ... » »»