تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٢٠٦
* أيا بومة قد عششت فوق هامتي * على الرغم مني حين طار غرابها * لما كنى عن الشيب بالبومة فأقبل عليها وناداها، رشح هذا المجاز بقوله: قد عششت، لأن الطائر من أفعاله اتخاذ العشة، وقد أورد الزمخشري في ترشيح المجاز في كشافه مثلا. وقرأ ابن أبي عبلة: تجاراتهم، على الجمع، ووجهه أن لكل واحد تجارة، ووجه قراءة الجمهور على الأفراد أنه اكتفى به عن الجمع لفهم المعنى، وفي قوله: فما ربحت تجارتهم، إشعار بأن رأس المال لم يذهب بالكلية، لأنه إنما نفى الربح، ونفي الربح لا يدل على انتقاص رأس المال. وأجيب عن هذا بأنه اكتفى بذكر عدم الربح عن ذكر ذهاب المال، لما في الكلام من الدلالة على ذلك، لأن الضلال نقيض الهدى، والنقيضان لا يجتمعان، فاستبدالهم الضلالة بالهدى دل على ذهاب الهدى بالكلية، ويتخرج عندي على أن يكون من باب قوله:
علي لا حب لا يهتدي بمناره أي لا منار له فيهتدي به، فنفى الهداية، وهو يريد نفي المنار، ويلزم من نفي المنار نفي الهداية به، فكذلك هذه الآية لما ذكر شراء شيء بشيء، توهم أن هذا الذي فعلوه هو من باب التجارة، إذ التجارة ليس نفس الاشتراء فقط، وليس بتاجر، إنما التجارة: التصرف في المال لتحصيل النمو والزيادة فنفى الربح. والمقصود نفي التجارة أي لا يتوهم أن هذا الشراء الذي وقع هو تجارة فليس بتجارة وإذا لم يكن تجارة انتفى الربح فكأنه قال: فلا تجارة لهم ولا ربح. وقال الزمخشري معناه: إن الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان: سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معا، لأن رأس المال مالهم كان هو الهدى، فلم يبق لهم مع الضلالة، وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح، وإن ظفروا بما ظفروا به من الأعراض الدنيوية، لأن الضلال خاسر دامر، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح. انتهى كلامه. ومع ذلك ليس بمخلص في الجواب لأن نفي الربح عن التجارة لا يدل على ذهاب كل المال، ولا على الخسران فيه، لأن الربح هو الفضل على رأس المال، فإذا نفى الفضل لم يدل على ذهاب رأس المال بالكلية، ولا على الانتقاص منه، وهو الخسران. قيل: لما لم يكن قوله تعالى: * (فما ربحت تجارتهم) * مفيدا لذهاب رؤوس أموالهم، أتبعه بقوله: * (وما كانوا مهتدين) *، فكمل المعنى بذلك، وتم به المقصود، وهذا النوع من البيان يقال له: التتميم، ومنه قول امرئ القيس:
* كأن عيون الوحش حول خبائنا * وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب * تمم المعنى بقوله: الذي لم يثقب، وكمل الوصف وسمى الله تعالى اعتياضهم الضلالة عن الهدى تجارة، وإن كانت التجارة هي البيع والشراء المتحقق منه الفائدة، أو المترجى ذلك منه. وهذا الاعتياض منفي عنه ذلك، لأن الكفر محبط للأعمال. قال تعالى: * (وقدمنا إلى ما عملوا) * الآية. وفي الحديث، أنه صلى الله عليه وسلم) سئل عن ابن جدعان: وهو ينفعه وصله الرحم وإطعام المساكين؟ فقال: (لا إنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، لأنهم لم يعتاضوا ذلك إلا
(٢٠٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 201 202 203 204 205 206 207 208 209 210 211 ... » »»