فالتفت الرجل إلى بني إسرائيل وقال: هذا هو التائب المخلص. ثم قال لداود: يا نبي الله لئن يغفر الله لي ذنبا واحدا أحب إلي من كل شيء وهبته لي، ولكني كنت أجربكم.
فأخذوا في بناء بيت المقدس، وكان داود (عليه السلام) ينقل لهم الحجارة على عاتقه وكذلك خيار بني إسرائيل حتى رفعوه قامة. فأوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام): (إن هذا بيت مقدس وإنك رجل سفاك للدماء فلست ببانيه إذا لم أقضي ذلك على يدك، ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان، أسلمه من سفك الدماء وأقضي إتمامه على يده، وذلك صيته وذكره لك باقيا).
فصلوا فيه زمانا، وداود يومئذ ابن سبع وعشرين ومئة سنة، فلما صار من أبناء أربعين ومئة سنة توفاه الله واستخلف سليمان. فأحب بناء بيت المقدس، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحها له. فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض الصافي من معادنه، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح، وجعلها اثني عشر ربضا، وأنزل كل ربض منها سبطا من الأسباط وكانوا اثني عشر سبطا.
فلما فرع من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد، فوجه الشياطين فرقا، فرقا يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر، وفرقا يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها، وفرقا يأتونه بالمسك والعنبر، فأتي من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله تعالى، ثم أحضر الصناعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحا، وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلىء فكانوا يعالجونها، فتصوت صوتا شديدا لصلابتها، فكره سليمان تلك الأصوات. فدعا الجن وقال لهم: (هل عندكم حيلة في نحت هذه الجواهر من غير تصويت؟).
فقالوا: يا رسول الله، ليس في الجن أكثر تجارب، ولا أكثر علما من صخر العفريت، فأرسل إليه من يأتيك به. فطبع سليمان خاتمه طابعا وكان يطبع للشياطين بالنحاس، ولسائر الجن بالحديد وكان إذا طبع أحدهما بخاتمه لمع ذلك كالبرق الخاطف، فكان لا يراه أحد: جني ولا شيطان إلا انقاد له بإذن الله عزت قدرته.
فأرسل الطابع مع عشرة من الجن فأتوه وهو في بعض جزائر البحور، فأروه الطابع، فلما نظر إليه كاد يصعق خوفا، فأقبل مسرعا مع الرسل حتى دخل على سليمان (عليه السلام). فسأل سليمان رسله عما أحدث العفريت في طريقه. فقالوا: يا رسول الله إنه كان يضحك بعض الأحايين من الناس. فقال له سليمان (عليه السلام): (ما رضيت بتمردك علي في ترك المجيء إلي طائعا حتى صرت تسخر بالناس؟).