وكان الشيطان يجيىء فيحرك أغصانها ويصيح من ساقها صياح الصبي: إني قد رضيت عنكم عبادي فطيبوا نفسا وقروا عينا، فيرفعون عند ذلك رؤوسهم ويشربون الخمر ويضربون بالمعازف فيكونون على ذلك يومهم وليلتهم، ثم ينصرفون حتى إذا كان عيد قريتهم العظمى اجتمع إليه صغيرهم وكبيرهم فضربوا عند الصنوبرة والعين سرادقا، ويقربون لها الذبائح أضعاف ما قربوا للشجرة التي في قراهم، فيجيء إبليس عند ذلك فيحرك الصنوبرة تحريكا شديدا ويتكلم من جوفها كلاما جهوريا يعدهم ويمنيهم بأكثر مما وعد بهم الشياطين كلها، فيرفعون رؤوسهم من السجود وبهم من الفرح والنشاط ما لا يفيقون من الشرب والعزف، فيكونون على ذلك اثنا عشر يوما ولياليها بعدد أعيادهم سائر السنة ثم ينصرفون.
فلما طال كفرهم بالله سبحانه وعبادتهم غيره بعث الله سبحانه إليهم نبيا من بني إسرائيل من ولد يهودا بن يعقوب فلبث فيهم زمانا طويلا يدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى ومعرفة ربوبيته فلا يتبعونه، فلما رأى شدة تماديهم في الغي والضلال، وتركهم قبول ما دعاهم إليه من الرشد والصلاح وحضر عند قريتهم العظمى قال: يا رب إن عبادك أبوا إلا أن يكذبوني ويكفروا بك وغدوا يعبدون شجرة لا تنفع ولا تضر، فأيبس شجرهم اجمع وأرهم قدرتك وسلطانك، فأصبح القوم وقد يبس شجرهم كله، فهالهم ذلك وقطعوا بها وصاروا فرقتين: فرقة قالت سحر آلهتكم هذا الرجل الذي زعم أنه رسول رب السماء والأرض إليكم ليصرف وجوهكم عن آلهتكم إلى إلهه.
وفرقة قالت: لا بل غضبت آلهتكم حين رأت هذا الرجل يعيبها ويقع فيه ويدعوكم إلى عبادة غيرها، فحجبت حسنها وبهاءها لكي تضبوا لها فينتصروا منه، فأجمع رأيهم على قتله فاتخذوا أنابيب طوالا من رصاص واسعة الأفواه، ثم أرسلوها في قرار العين إلى أعلى الماء واحدة فوق الأخرى مثل البرابخ، ونزحوا ما فيها من الماء ثم حفروا في قرارها بئرا ضيقة المدخل عميقة، وأرسلوا فيها نبيهم وألقموا فاها صخرة عظيمة ثم أخرجوا الأنابيب من الماء وقالوا: نرجو الآن أن ترضى عنا آلهتنا إذ رأت أنا قد قتلنا من كان يقع فيها ويصد عن عبادتها ودفناه تحت كبيرها يتشفى منه فيعود لها نورها ونضرتها كما كان، فبقوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم عليه السلام وهو يقول: سيدي قد ترى ضيق مكاني وشدة كربي فارحم ضعف ركني وقلة حيلتي، وعجل قبض روحي ولا تؤخر إجابة دعوتي حتى مات عليه السلام.
فقال الله تعالى لجبرئيل: إن عبادي هؤلاء غرهم حلمي وآمنوا مكري وعبدوا غيري وقتلوا رسولي، وأنا المنتقم ممن عصاني ولم يخش عقابي، وإني حلفت لأجعلنهم عبرة ونكالا للعالمين، فلم يرعهم وهم في عيدهم إلا ريح عاصف شديدة الحمرة قد عروا عنها وتحيروا فيها، وانضم بعضهم إلى بعض ثم صارت الأرض من تحتهم حجر كبريت تتوقد وأظلتهم سحابة سوداء فألقت عليهم كالقبة حمراء تلتهب فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص في النار نعوذ بالله من غضبه ودرك نقمته.