ليتني إذ كرهتني لم تخلقني، يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي، أو يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني، لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي فالموت كان أجمل لي، ألم أكن للغريب دارا وللمسكين قرارا ولليتيم وليا وللأرملة قيما؟
الهي أنا عبد ذليل، إن أحسنت فالمن لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي، جعلتني للبلاء غرضا وللفتنة نصبا، وقد وقع علي بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله، فكيف يحمله ضعفي، إلهي تقطعت أصابعي فإني لأرفع الأكلة من الطعام بيدي جميعا فما تبلغان فمي إلا على الجهد مني، تساقطت لهواتي ولحم رأسي، فما بين أذني من سداد حتى أن إحداهما ترى من الأخرى، وإن دماغي يسيل من فمي.
تساقط شعر عيني فكأنما حرق بالنار وجهي، وحدقتاي هما متدليتان على خدي، ورم لساني حتى ملأ فمي، فما أدخل منه طعاما إلا غصني، ورمت شفتاي حتى غطت العليا أنفي والسفلى ذقني، تقطعت أمعائي في بطني فإني لأدخله الطعام فيخرج كما دخل ما أحسه ولا ينفعني، ذهبت قوة رجلي فكأنهما قربتا ماء أطيق حملهما، ذهب المال فصرت أسأل بكفي فيطعمني من كنت أعوله اللقمة الواحدة، فيمنها علي ويعيرني، هلك أولادي ولو بقي أحد منهم أعانني على بلائي ونفعني، قد ملني أهلي وعقني أرحامي وتنكرت معارفي ورغب عني صديقي وقطعني أصحابي وجحدت حقوقي ونسيت صنايعي، أصرخ فلا يصرخونني وأعتذر فلا يعذرونني، ودعوت غلامي فلم يجبني وتضرعت لأمتي فلم ترحمني وأنحل جسمي ولو أن ربى نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي، ثم كان ينبغي للعبد أن يحاج عن نفسه، لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي ولكنه ألقاني وتعالى عني فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه، لا نظر إلى فرحمني ولا دنا مني ولا أدناني، فأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي.
فلما قال ذلك أيوب وأصحابه أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب، ثم نودي منه: يا أيوب إن الله يقول: ها أنا دنوت منك ولم أزل منك قريبا، فقم فأدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد إزارك وقم مقام جبار فإني لا ينبغي لي أن يخاصمني إلا جبار مثلي ولا ينبغي أن يخاصمني إلا من يجعل الزمار، في فم الأسد والسخال في فم العنقاء واللجام في فم التنين، ويكتال مكيالا من النور ويزن مثقالا من الريح ويصر صرة من الشمس ويرد أمس، لقد منتك نفسك أمرا ما يبلغ بمثل قوتك ولو كنت إذ منتك ذلك ودعتك إليه، تذكرت أى مرام رامت بك.