أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٦١٣
باب الشهادة على الوصية في السفر قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) قد اختلف في معنى الشهادة ههنا، فقال قائلون: " هي الشهادة على الوصية في السفر " وأجازوا بها شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر. وروى الشعبي عن أبي موسى أن رجلا مسلما توفي بدقوقا ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فأحلفهما أبو موسى بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا، وأنها لوصية الرجل وتركته، فأمضى أبو موسى شهادتهما وقال: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: " معنى: (شهادة بينكم) حضور الوصيين، من قولك شهدته إذا حضرته ". وقال آخرون: " إنما الشهادة هنا أيمان الوصية بالله إذا ارتاب الورثة بهما "، وهو قول مجاهد. فذهب أبو موسى إلى أنها الشهادة على الوصية التي تثبت بها عند الحكام، وأن هذا حكم ثابت غير منسوخ، وروي مثله عن شريح، وهو قول الثوري وابن أبي ليلى والأوزاعي. وروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وابن سيرين وعبيدة وشريح والشعبي: (أو آخران من غيركم): " من غير ملتكم ". وروي عن الحسن والزهري: " من غير قبيلتكم ".
فأما تأويل من تأولها على اليمين دون الشهادة التي تقام عند الحكام، فقول مرغوب عنه، وإن كانت اليمين قد تسمى شهادة في نحو قوله تعالى: (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله) [النور: 6]، لأن الشهادة إذا أطلقت فهي الشهادة المتعارفة، كقوله تعالى: (وأقيموا الشهادة لله) [الطلاق: 2] (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) [البقرة: 282] (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) [البقرة: 282] (وأشهدوا ذوي عدل منكم) [الطلاق: 2] كل ذلك قد عقل به الشهادات على الحقوق لا الأيمان، وكذلك قوله تعالى: (شهادة بينكم) المفهوم فيه الشهادة المتعارفة. ويدل عليه قوله تعالى:
(إذا حضر أحدكم الموت) ويبعد أن يكون المراد أيمان بينكم إذا حضر أحدكم الموت، لأن حال الموت ليس حالا للأيمان. ثم زاد بذلك بيانا بقوله: (اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم) يعني والله أعلم: إن لم يوجد ذوا عدل منكم، ولا يختلف في حكم اليمين وجود ذوي العدل وعدمهم. وقوله تعالى: (ولا نكتم شهادة الله) يدل على ذلك أيضا، لأن اليمين موجودة ظاهرة غير مكتوبة، ثم ذكر يمين الورثة بعد اختلاف الوصيين على مال الميت، وإنما الشهادة التي هي اليمين هي المذكورة في قوله: (لشهادتنا أحق من شهادتهما) ثم قوله: (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها) يعني به الشهادة
(٦١٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 608 609 610 611 612 613 614 615 616 617 618 ... » »»