إلا من بعده)، فكيف يكون إبراهيم منسوبا إلى ملة حادثة بعده؟!.
فإن قيل: فينبغي أن لا يكون حنيفا مسلما، لأن القرآن نزل بعده قيل له: لما كان معنى الحنيف الدين المستقيم، لأن الحنف في اللغة هو الاستقامة، والإسلام ههنا هو الطاعة لله تعالى والانقياد لأمره، وكل أحد من أهل الحق يصح وصفه بذلك، فقد علمنا بأن الأنبياء المتقدمين إبراهيم ومن قبله قد كانوا بهذه الصفة، فلذلك جاز أن يسمى إبراهيم حنيفا مسلما وإن كان القرآن نزل بعده، لأن هذا الاسم ليس بمختص بنزول القرآن دون غيره، بل يصح صفة جميع المؤمنين به، واليهودية والنصرانية صفة حادثة لمن كان على ملة حرفها منتحلوها من شريعة التوراة والإنجيل، فغير جائز أن ينسب إليها من كان قبلها.
مطلب: في وجوب المحاجة في الدين وفي هذه الآيات دليل على وجوب المحاجة في الدين وإقامة الحجة على المبطلين، كما احتج الله تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في أمر المسيح عليه السلام وأبطل بها شبهتهم وشغبهم.
وقوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم) أوضح دليل على صحة الاحتجاج للحق، لأنه لو كان الحجاج كله محظورا لما فرق بين المحاجة بالعلم وبينها إذا كانت بغير علم. وقيل في قوله تعالى: (حاججتم فيما لكم به علم): فيما وجدوه في كتبهم، وأما ما ليس لهم به علم فهو شأن إبراهيم في قولهم إنه كان يهوديا أو نصرانيا.
قوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) معناه: تأمنه على قنطار، لأن " الباء " و " على " تتعاقبان في هذا الموضع، كقولك: مررت بفلان ومررت عليه. وقال الحسن في القنطار: " هو ألف مثقال ومائتا مثقال ". وقال أبو نضرة: " ملء مسك ثور ذهبا ". وقال مجاهد: " سبعون ألفا ". وقال أبو صالح: " مائة رطل " فوصف الله تعالى بعض أهل الكتاب بأداء الأمانة في هذا الموضع، ويقال إنه أراد به النصارى.
ومن الناس من يحتج بذلك في قبول شهادة بعضهم على بعض، لأن الشهادة ضرب من الأمانة، كما أن بعض المسلمين لما كان مأمونا جازت شهادته فكذلك الكتابي من حيث كان منهم موصوفا بالأمانة دل على جواز قبول شهادته على الكفار.
فإن قيل: فهذا يوجب جواز قبول شهادتهم على المسلمين، لأنه وصفه بأداء الأمانة إلى المسلمين إذا ائتمنوه عليها. قيل له: كذلك يقتضي ظاهر الآية، إلا أنا خصصناه