أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ١٤٦
فكان جائزا أن يظن ظان أن النظر بانفراده يحرم كما يحرم الوطء لتسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياه زنا، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يحرم وأن التحريم إذا لم تكن ملامسة إنما يتعلق بالعقد وإن لم يكن مسيس، وإذا احتمل هذا الخبر ما وصفنا زال الاعتراض به. وعلى أنهم متفقون أن التحريم غير مقصور على النكاح ولا على الوطء المباح، لأنه لا خلاف أن من وطئ أمته حائضا أن هذا وطء حرام في غير نكاح وأنه يوجب التحريم، فبطل أن يكون حكم التحريم مقصورا على النكاح ولا على وطء مباح، وكذلك لو وطئ جارية بينه وبين غيره أو جاريته وهي مجوسية كان واطئا وطئا حراما في غير نكاح موجب للتحريم، وهذا يدل على أن الحديث إن ثبت فليس بعموم في نفي إيجاب التحريم بوطء حرام. وأيضا قد حرم الله تعالى امرأة المظاهر عليه بالظهار، وقد سماه منكرا من القول وزورا، ولم يكن هذا القول محرما مانعا من وقوع تحريم الوطء به. وأيضا فإن قوله: " الحرام لا يحرم الحلال " لا يصح الاحتجاج به، لوروده مطلقا من وجه صحيح غير متعلق بسبب من وجهين، أحدهما: أن الحرام والحلال إنما هو حكم الله تعالى بالتحريم والتحليل، وقد علمنا حقيقة أن حكم الله تعالى بالتحريم في شئ وبالتحليل في غيره ليس يتعلق به حكم اخر في إيجاب تحريم أو تحليل إلا بدلالة، فهذا اللفظ إذا حمل على حقيقته لم يكن له تعلق بمسألتنا، لأنا كذلك نقول إن حكم الله تعالى بالتحريم لا يوجب تحريم مباح بنفس ورود الحكم إلا أن يقول الدليل على إيجاب تحريم غيره من حيث حرم هو، وفائدته حينئذ أن ما قد حكم الله تعالى بتحليله نصا فهو مقر على ما حكم به من تحليله، وإذا حكم بتحريم شئ آخر لم يجز الاعتراض على المحكوم بتحليله بديا بتحريم غيره من طريق القياس فمنع تحريم المباح بالقياس، ودل ذلك على بطلان قول من يجيز النسخ بالقياس، هذا الذي تقتضيه حقيقة اللفظ إن صح، فهذا أحد الوجهين اللذين ذكرنا.
والوجه الآخر: أن يكون المراد بقوله: " الحرام لا يحرم الحلال " أن فعل الحرام لا يحرم الحلال، فإن كان هذا أراد فلا محالة أن في اللفظ ضميرا يجب اعتباره دون اعتبار حقيقة معنى اللفظ، فلا يصح له الاحتجاج به من وجهين، أحدهما: أن الضمير ليس بمذكور يعتبر عمومه فيسقط الاحتجاج بعمومه، إذ الضمير ليس بمذكور حتى يكون لفظ عموم فيما تحته من المسميات، فلا يصح لأحد الاحتجاج بعموم ضمير غير مذكور. والوجه الآخر: أنه لا يصح اعتبار العموم فيه، من قبل أنه لا يصح اعتقاد العموم في مثله، لاتفاق المسلمين على إيجاب تحريم الحرام الحلال وهو الوطء بنكاح فاسد ووطء الأمة الحائض والطلاق الثلاث في الحيض والظهار والخمر إذا خالطت الماء والردة تبطل النكاح وتحرمها على الزوج وغير ذلك من الأفعال المحرمة للحلال، فقوله صلى الله عليه وسلم: " الحرام لا يحرم الحلال " لو ورد بلفظ عموم لما صح اعتقاد العموم فيه، وكان مفهوما مع وروده
(١٤٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 141 142 143 144 145 146 147 148 149 150 151 ... » »»