قوله تعالى: (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) تأكيد وتبيين لما تدل عليه الآية السابقة أن الكتاب في موطنه الأصلي وراء تعقل العقول.
والضمير للكتاب، والمراد بأم الكتاب اللوح المحفوظ كما قال تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) البروج: 22، وتسميته بأم الكتاب لكونه أصل الكتب السماوية يستنسخ منه غيره، والتقييد بأم الكتاب و (لدينا) للتوضيح لا للاحتراز، والمعنى: أنه حال كونه في أم الكتاب لدينا - حالا لازمة - لعلي حكيم، وسيجئ في أواخر سورة الجاثية كلام في أم الكتاب إن شاء الله.
والمراد بكونه عليا على ما يعطه مفاد الآية السابقة أنه رفيع القدر والمنزلة من أن تناله العقول، وبكونه حكيما أنه هناك محكم غير مفصل ولا مجزى إلى سور وآيات وجمل وكلمات كما هو كذلك بعد جعله قرآنا عربيا كما استفدناه من قوله تعالى: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) هود: 1.
وهذان النعتان أعني كونه عليا حكيما هما الموجبان لكونه وراء العقول البشرية فإن العقل في فكرته لا ينال إلا ما كان من قبيل المفاهيم والألفاظ أولا وكان مؤلفا من مقدمات تصديقية يترتب بعضها على بعض كما في الآيات والجمل القرآنية، وأما إذا كان الامر وراء المفاهيم والألفاظ وكان غير متجز إلى أجزاء وفصول فلا طريق للعقل إلى نيله.
فمحصل معنى الآيتين: أن الكتاب عندنا في اللوح المحفوظ ذو مقام رفيع وإحكام لا تناله العقول لذينك الوصفين وإنما أنزلناه بجعله مقروا عربيا رجاء أن يعقله الناس.
فإن قلت: ظاهر قوله: (لعلكم تعقلون) إمكان تعقل الناس هذا القرآن العربي النازل تعقلا تاما فهذا الذي نقرؤه ونعقله إما أن يكون مطابقا لما في أم الكتاب كل المطابقة أو لا يكون، والثاني باطل قطعا كيف؟ وهو تعالى يقول: (وإنه في أم الكتاب) و (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) البروج: 22، و (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون) الواقعة: 78، فتعين الأول ومع مطابقته لام الكتاب كل المطابقة ما معنى كون القرآن العربي الذي عندنا معقولا لنا وما في أم الكتاب عند الله غير معقول لنا؟
قلت: يمكن أن تكون النسبة بين ما عندنا وما في أم الكتاب نسبة المثل والممثل فالمثل هو الممثل بعينه لكن الممثل له لا يفقه إلا المثل فافهم ذلك.