هوت به في بعض المطاوح البعيدة، وإن كان مفرقا فقد شبه الايمان في علوه بالسماء، والذي ترك الايمان وأشرك بالله بالساقط من السماء وشبه الأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة والشيطان إلى يطوح به في وادى الضلالة بالريح تهوى بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة) قال أحمد: أما على تقدير أن يكون مفرقا فيحتاج تأويل تشبيه المشرك بالهاوي من السماء إلى التنبيه على أحد أمرين: إما أن يكون الاشراك المراد ردته فإنه حينئذ كمن علا إلى السماء بإيمانه ثم هبط بارتداده، وإما أن يكون الاشراك أصليا فيكون قد عد تمكن المشرك من الايمان ومن العلو به ثم عدوله عنه اختيارا بمنزلة من علا إلى السماء ثم هبط كما قال تعالى - والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات - فعدهم مخرجين وما دخلوه قط ولكن كانوا متمكنين منه، وقد مضى تقرير هذا المعنى بأبسط من هذا، وفي تقرير تشبيه الأفكار المتوزعة للكافر بالطير المختطفة، وفى تشبيه تطويح الشيطان بالهوى مع الريح في مكان سحيق نظر، لان الامرين ذكرا في سياق تقسيم حال الكافر إلى قسمين، فإذا جعل الأول مثلا لاختلاف الأهواء والأفكار، والثاني مثلا لنزع الشيطان فقد جعلهما شيئا واحدا، لان توزع الأفكار واختلاف الأهواء مضاف إلى نزغ الشيطان فلا يتحقق التقسيم المقصود، والذي يظهر في تقرير التشبيهين غير ذلك فنقول: لما انقسمت حال الكافر إلى قسمين لا مزيد عليهما: الأول منهما المتذبذب والمتمادي على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة، فهذا القسم من المشركين مشبه بمن اختطفته الطير وتوزعته فلا يستولى طائر على مزعة منه إلا انتهبها منه آخر، وذلك حال المذبذب لا يلوح له خيال إلا اتبعه ونزل عما كان عليه. والثاني مشرك مصمم على معتقد باطل لو نشر بالمناشير لم يكع ولم يرجع، لا سبيل إلى تشكيكه ولا مطمع في نقله عما هو عليه فهو فرح مبتهج بضلالته، فهذا مشبه في إقراره على كفره باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل فاستقر فيه، ونظير تشبيهه بالاستقرار في الوادي السحيق الذي هو أبعد الاخباء عن السماء وصف ضلالة بالبعد في قوله تعالى - أولئك في ضلال بعيد - وضلوا ضلالا بعيدا - أي صمموا على ضلالهم فبعد رجوعهم إلى الحق فهذا تحقيق القسمين، والله أعلم.
(١٣)