الحاشية على الكشاف - الشريف الجرجاني - الصفحة ٢٣
يكون من الحديث ومن غيره، فبين بالحديث، والمراد بالحديث المنكر كما جاء في الحديث " الحديث في المسجد يأكل الحسنات " ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى من التبعيضية كأنه قيل: ومن الناس من يشترى بعض الحديث الذي اللهو منه، فنقول على التقدير الثاني: إن أريد بالحديث مطلقه كان جنسا للهو صادقا عليه، كما أن الحديث المنكر يصدق عليه، وكانت الإضافة بيانية كما في باب ساج، فلم يجز جعلها مقابلة إياها، وإن أريد بالحديث العموم والاستغراق فقد ثبت إضافة الجزء إلى الكل بمعنى من التبعيضية، وإن كانت غير مشهورة.
قلت: الظاهر أن المراد مطلق الحديث، لكنه دقق النظر في إضافة الشئ إلى ما هو صادق عليه، فما كان فيه المضاف إليه يحسن جعله بيانا وتمييزا للمضاف كالساج للباب، وكالحديث المنكر للهو جعلها بيانية، وما لم يحسن ذلك فيه كالحديث المطلق للهو جعلها تبعيضية ميلا إلى جانب المعنى (قوله مكية) ذكر المصنف في سورة الفلق أن أكثر المفسرين على أن الفاتحة أول سورة نزلت ثم القلم فتكون مكية، وأما أنها نزلت مرة أخرى بالمدينة حين حولت القبلة كما نزلت بمكة حين افترضت الصلاة فهو قول البعض. وقد يتوهم أنها مدنية فقط. ويرده اتفاق الأكثر على أنها متقدمة في النزول على سورة القلم وإن كان صدر القلم أول منزل، وسيأتيك تحقيقه عن كثب.
ولما كان تسمية هذه السورة بفاتحة الكتاب وسورة الحمد ظاهره، وكذا تسميتها بسورة الشفاء والشافية، إذ قد ورد أنها شفاء من كل داء لم يتعرض لها، وأما تسميتها بأم القرآن وسورة الكنز والوافية فلا اشتمالها على أصول معاني القرآن وهى ثلاثة: الأول الثناء على الله بما هو أهله. الثاني تعبد العباد وتكليفهم بالأمر والنهى. الثالث الوعد والوعيد بالترغيب والترهيب. أما الثناء أعني إجراء صفات الكمال على الله تعالى فظاهر، وأما العبادة ففي قوله تعالى - إياك نعبد - فإن العبادة قيام العبد بحق العبودية وما تعبد به من امتثال أوامر المولى ونواهيه أو في قوله - الصراط المستقيم - إذ أريد به ملة الإسلام المشتملة على الأحكام، أو في قوله - الحمد لله - لأنه لتعليم العباد، فمآل معناه قولوا: الحمد لله، والأمر بالشئ إيجابا يستلزم النهى عن ضده. وأما الوعد والوعيد ففي قوله - أنعمت عليهم والمغضوب عليهم - أو في قوله - يوم الدين - أي الجزاء فإنه يتناول الثواب والعقاب، والوجه في انحصار مقاصد الكتاب المجيد في الأصول الثلاثة أن القرآن أنزل إرشادا للعباد إلى معرفة المبدأ والمعاد، ليؤدوا حق المبدئ بامتثال ما أمر ونهى، ويدخروا بذلك للمعاد مثوبة كبرى. وبعبارة أخرى أنزل القرآن كافلا بسعادة الإنسان، وذلك بأن يعرف مولاه ويتوصل إليه بما يقربه منه ويتنصل عما يبعده عنه، ولابد في التوصل من باعث هو الوعد، وفى التنصل من زاجر هو الوعيد، ولولا هما لاستولى الكسل الطبيعي على النفوس، وتسلط عليها دواعي الهوى، وحجبت عن حضرة النور بظلمات بعضها فوق بعض، وقد يظن أن هاهنا مقصدا رابعا هو الدعاء والسؤال في قوله - أهدانا - ويجاب بأنه متفرع على ما ذكر، فإن المعتد به من الدعاء ما كان في أمر الآخرة، وأداء الطاعة وترك المعصية. لا يقال كثير من السور تشتمل على هذه المعاني ولم تسم أم القرآن. لأنا نقول: لما كانت هذه السورة متقدمة على سائر السور وضعا بل نزولا على قول الأكثر، وكانت مشتملة على تلك المعاني مجملة على أحسن ترتيب، ثم صارت مفصلة في السور الباقية، فنزلت منها منزلة مكة من سائر القرى حيث مهدت أرضها أولا،
(٢٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 ... » »»