واحد لأن التي في الفرقان نزلت في الكفار، والتي في النساء نزلت فيمن عقل الإيمان ودخل فيه، فلا تعارض بينهما أو إنما نزلت آية النساء فيمن قتل مؤمنا مستحلا لقتله متعمدا للتكذيب من غير جهالة فتكذيبه كتكذيب إبليس، ولذلك قال ابن عباس لا توبة له كما لا توبة لإبليس، وكيف يشكل حكم هذه الآية على عالم قد بينه الله عز وجل غاية البيان، وأخبر بأنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك؟ انتهى.
وأما الذين قالوا: إن هذه الآية محكمة فاختلفوا في وجه أحكامها، فذهب عكرمة إلى أن المعنى مستحلا لقتله فيستحق التخليد لاستحلاله، وذهب بعضهم إلى أنها لم يلحقها ناسخ وهي باقية على أحكامها، وقد روى عبد بن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير عن يحيى الجابري عن سالم بن أبي الجعد قال: (كنا عند ابن عباس بعدما كف بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس، ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا؟ فقال: جزاؤه جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه، ولعنه وأعد له عذابا عظيما. قال: أفرأيت إن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى؟ والذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم، يقول: ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمدا جاء يوم القيامة أخذه بيمينه. أو بشماله تشخب أوداجه دما قبل عرش الرحمن يلزمه قاتله بيده الأخرى. يقول: سل هذا فيم قتلني؟ وأيم الذي نفس عبد الله بيده لقد أنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم، وما نزل بعدها من برهان. وقال الثعلبي: قالت الخوارج والمعتزلة، المؤمن إذا قتل مؤمنا إن هذا الوعيد لاحق به، وقالت المرجئة: نزلت هذه الآية الكريمة في كافر قتل مؤمنا، فأما مؤمن قتل مؤمنا فلا يدخل النار، وقالت طائفة من أصحاب الحديث: نزلت في مؤمن قتل مؤمنا والوعيد عليه ثابت، إلا أن يتوب ويستغفر، وقالت طائفة: كل مؤمن قتل مؤمنا فهو خالد في النار غير مؤبد ويخرج منها بشفاعة الشافعين، وعندنا. أن المؤمن إذا قتل مؤمنا لا يكفر بفعله ولا يخرج به من الإيمان إلا أن يقتله استحلالا فإن أقيد بمن قتله فذلك كفارة له، وإن كان تائبا من ذلك ولم يكن مقادا بمن قتل كانت التوبة أيضا كفارة له فإن خرج من الدنيا بلا توبة ولا قود فأمره إلى الله تعالى، والعذاب قد يكون نارا وقد يكون غيرها في الدنيا ألا ترى إلى قوله تعالى: * (يعذبهم الله بأيدكم) * (التوبة: 14) يعني: بالقتل والأسر.
ويجاب عن قول الخوارج ومن معهم، بأن المراد من التخليد المكث بطول المدة، ألا ترى إلى قوله تعالى: * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) * (الأنبياء: 34) ومن المعلوم أن الدنيا تفنى، وعن قول المرجئة بأن كلمة من في الآية عامة، فإن قالوا: إن الله لا يغضب إلا على كافر أو خارج من الإيمان، فالجواب: أن الآية لا توجب غضبا عليه، لأن معناه فجزاؤه جهنم وجزاؤه أن يغضب عليه ويلعنه، ما ذكر الله تعالى من شيء وجعله جزاء لشيء فليس ذلك واجبا. كقوله تعالى: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) * (المائدة: 33) ورب محارب لله ورسوله لم يحل عليه شيء من هذه المعاني حتى فارق الدنيا، وإن قالوا: قوله تعالى: * ( وغضب الله عليه ولعنه) * (النساء: 93) من الأفعال الماضية، فالجواب أنه قد يرد الخطاب بلفظ الماضي. والمراد به المستقبل. كقوله تعالى: * (ونفخ في الصور) * (الكهف: 99) * (وحشرناهم) * (الكهف: 47) وقد يرد المستقبل بمعنى الماضي كقوله: * (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله) * (البروج: 8) أي: إلا أن آمنوا. فإن قلت: رويت أخبار بأن القاتل لا توبة له. قلت: إن صحت فتأويلها إذا لم ير القتل ذنبا ولم يستغفر الله تعالى منه. قال صاحب (التلويح). ما رواه أبو الدرداء، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا، أو مؤمن قتل مؤمنا متعمدا. ولم يتب وقال ابن كثير في تفسيره وأما قوله معاوية كل ذنب عسى الله أن يغفره الا الرجل يموت كافر أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا فعسى للترجي وانتفاء الترجي في هاتين الصورتين لا ينفي وقوع ذلك في أحدهما وهو القتل انتهى. فهذا كما رأيت ذكره عن معاوية. ولم يذكر لفظ لم يتب. وأوله بهذا المعنى، والله أعلم، وأجمع المسلمون على صحة توبة القاتل عمدا وكيف لا تصح توبته وتصح توبة الكافر وتوبة من ارتد عن الإسلام ثم قتل المؤمن عمدا ثم رجع إلى الإسلام؟ وقال عبد الله بن عمر: كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل المؤمن وآكل مال اليتيم وشاهد الزور وقاطع الرحم، يعني: لا نشك في الشهادة لهم بالنار حتى نزلت: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك) * (النساء: 48، 116) فأمسكنا عن الشهادة لهم. فإن قلت: ما تقول في الرجل الذي سأل أبا هريرة وابن عمر وابن عباس عن قتل العمد، فكلهم قال: هل يستطيع أن يجيبه؟ قلت: هذا على وجه تعظيم القتل والزجر، وما أما مطالبة المقتول