قوله: (فيكم)، خطاب لهذه الأمة. قوله: (حكما)، أي: حاكما بهذه الشريعة، فإن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم لا تنسخ، وفي رواية الليث ابن سعد عند مسلم: حكما مقسطا، وله في رواية: إماما مقسطا، أي: عادلا، والقاسط الجائر. قوله: (ويقتل الخنزير)، ووقع في رواية الطبراني، ويقتل الخنزير والقردة. قوله: (ويضع الجزية)، هذه رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: ويضع الحرب، والمعنى: أن الدين يصير واحدا، لأن عيسى، عليه الصلاة والسلام، لا يقبل إلا الإسلام. فإن قلت: وضع الجزية مشروع في هذه الأمة فلم لا يكون المعنى: تقرر الجزية على الكفار من غير محاباة، فلذلك يكثر المال؟ قلت: مشروعية الجزية مقيدة بنزول عيسى، عليه الصلاة والسلام، وقد قلنا أن عيسى عليه الصلاة والسلام لا يقبل إلا الإسلام وقال ابن بطال وإنما قبلناها قبل نزول عيسى عليه الصلاة والسلام للحاجة إلى المال بخلاف زمن عيسى، عليه الصلاة والسلام، فإنه لا يحتاج فيه إلى المال، فإن المال يكثر حتى لا يقبله أحد. قوله: (ويفيض المال)، بفتح الياء وكسر الفاء وبالضاد المعجمة، أي: يكثر، وأصله من فاض الماء، وفي رواية عطاء بن مينا: وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد، وسببه كثرة المال ونزول البركات وتوالي الخيرات بسبب العدل وعدم الظلم، وحينئذ تخرج الأرض كنوزها وتقل الرغبات في اقتناء المال لعلمهم بقرب الساعة. قوله: (حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها) لأنهم حينئذ لا يتقربون إلى الله إلا بالعبادات لا بالتصدق بالمال. فإن قلت: السجدة الواحدة دائما خير من الدنيا وما فيها، لأن الآخرة خير وأبقى. قلت: الغرض أنها خير من كل مال الدنيا، إذ حينئذ لا يمكن التقرب إلى الله تعالى بالمال، وقال التوربشتي: يعني أن الناس يرغبون عن الدنيا حتى تكون السجدة الواحدة أحب إليهم من الدنيا وما فيها. قوله: (ثم يقول أبو هريرة...) إلى آخره، موصول بالإسناد المذكور. قوله: (واقرؤا إن شئتم)، قال ابن الجوزي: إنما أتى بذكر هذه الآية للإشارة إلى مناسبتها لقوله: (حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها). فإنه يشير بذلك إلى صلاح الناس وشدة إيمانهم وإقبالهم على الخير، فهم لذلك يؤثرون الركعة الواحدة على جميع الدنيا، والسجدة تذكر ويراد بها الركعة. وقال القرطبي: معنى الحديث أن الصلاة حينئذ تكون أفضل من الصدقة لكثرة المال إذ ذاك، وعدم الانتفاع به حتى لا يقبله أحد. قوله: (وإن من أهل الكتاب)، كلمة: إن، نافية، يعني: ما من أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلا ليؤمنن به.
واختلف أهل التفسير في مرجع الضمير في قوله تعالى: به. فروى ابن جرير من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: إنه يرجع إلى عيسى، عليه الصلاة والسلام، وكذا روي من طريق أبي رجاء عن الحسن، قال: قبل موت عيسى: والله إنه لحي، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون، وذهب إليه أكثر أهل العلم، ورجحه ابن جرير وأبو هريرة أيضا صار إليه فقراءته هذه الآية الكريمة تدل عليه، وقيل: يعود الضمير إلى الله، وقيل: إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والضمير في قوله: (قبل موته) يرجع إلى أهل الكتاب عند الأكثرين لما روى ابن جرير من طريق عكرمة عن ابن عباس: (لا يموت يهودي ولا نصراني حتى يؤمن بعيسى) فقال له عكرمة: أرأيت إن خر من بيت أو احترق أو أكله السبع؟ قال: لا يموت حتى يحرك شفتيه بالإيمان بعيسى، وفي إسناده: خصيف، وفيه ضعف، ورجح جماعة هذا المذهب لقراءة أبي بن كعب، رضي الله تعالى عنه، إلا ليؤمنن به قبل موتهم، أي: قبل موت أهل الكتاب، وقيل: يرجع إلى عيسى، أي: إلا ليؤمنن به قبل موت عيسى، عليه الصلاة والسلام، ولكن لا ينفع هذا الإيمان في تلك الحالة.
فإن قلت: ما الحكمة في نزول عيسى، عليه الصلاة والسلام، والخصوصية به؟ قلت: فيه وجوه. الأول: للرد على اليهود في زعمهم الباطل أنهم قتلوه وصلبوه، فبين الله تعالى كذبهم، وأنه هو الذي يقتلهم. الثاني: لأجل دنو أجله ليدفن في الأرض، إذ ليس لمخلوق من التراب أن يموت في غير التراب. الثالث: لأنه دعا الله تعالى لما رأى صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته أن يجعله منهم فاستجاب الله دعاءه وأبقاه حيا حتى ينزل في آخر الزمان ويجدد أمر الإسلام، فيوافق خروج الدجال فيقتله. الرابع: لتكذيب النصارى وإظهار زيفهم في دعواهم الأباطيل وقتله إياهم. الخامس: أن خصوصيته بالأمور المذكورة لقوله صلى الله عليه وسلم: أنا أولى الناس بابن مريم ليس بيني وبينه نبي، وهو أقرب إليه من غيره في الزمان، وهو أولى بذلك.
106 - (حدثنا ابن بكير حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن نافع مولى أبي قتادة