عمدة القاري - العيني - ج ١٥ - الصفحة ٧٨
وقول الله تعالى * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) * (التوبة: 92).
وقول الله، بالجر عطفا على قوله: الجزية، أي: وفي بيان قول الله عز وجل. ومطابقة الآية الكريمة للترجمة في قوله: * (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) * (التوبة: 92). وهذه الآية أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعدما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا واستقامت جزيرة العرب، أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين: اليهود والنصارى، وكان ذلك في سنة تسع، ولهذا جهز رسول الله، صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم فأوعبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفا، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم، وكان ذلك في عام جدب ووقت قيظ وحر، وخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم يريد الشام لقتال الروم، فبلغ تبوك فنزل بها وأقام على مائها قريبا من عشرين يوما، ثم استخار الله تعالى في الرجوع فرجع لضيق الحال وضعف الناس. قوله: * (حتى يعطوا الجزية) * (التوبة: 92). أي: إن لم يسلموا. قوله: * (عن يد) * (التوبة: 92). أي: عن قهر وغلبة. * (وهم صاغرون) * (التوبة: 92). أي: ذليلون حقيرون مهانون، فلهذا لا يجوز إعزازهم لا رفعهم على المسلمين، بل أذلاء أشقياء.
أذلاء هذا تفسير البخاري لقوله تعالى: * (وهم صاغرون) * (التوبة: 92). وذكر أبو عبيد في (المجاز): الصاغر الذليل الحقير.
والمسكنة مصدر المسكين يقال: أسكن من فلان أحوج منه ولم يذهب إلى السكون وجه ذكر البخاري لفظ المسكنة هنا هو أن عادته أنه يذكر ألفاظ القرآن التي لها أدنى مناسبة بينها وبين ما هو المقصود في الباب، ويفسرها. وقد ورد في حق أهل الكتاب قوله تعالى: * (وضربت عليهم الذلة والمسكنة) * (البقرة: 16). فقال: والمسكنة مصدر المسكين. قلت: المسكنة الفقر المدقع، وقال ابن الأثير: المسكنة فقر النفس، فإن كان مراد البخاري من المصدر الاصطلاحي فلا يصح على ما لا يخفى، وإن كان مراده الموضع فكذلك، لأنه لا يقال: المسكنة موضع صدور المسكين. قوله: (أسكن من فلان أحوج منه)، إشارة إلى أن المسكين يؤخذ من قولهم: فلان أسكن من فلان، أي: أحوج، وليس من السكون الذي هو قلة الحركة، وهذا الكلام فيه ما فيه أيضا، لأن المسكنة والمسكين وما يشتق من ذلك في هذا الباب كلها من السكون، وقال بعضهم: والقائل: ولم يذهب إلى الكسون، قيل: هو الفربري الراوي عن البخاري. قلت: من قال ممن تصدى شرح البخاري أو من غيرهم إن قائل هذا هو الفربري، وهذا تخمين وحدس، ولئن سلمنا أن أحدا منهم ذكر هذا الإبهام فلا يفيد شيئا، لأن المتصرف في مادة خارجا عن القاعدة لا يؤخذ منه، وهذا مما لا نزاع فيه ولا مكابرة.
وما جاء في أخذ الجزية من اليهود والنصارى والمجوس والعجم أي: وفي بيان ما جاء في أخذ الجزية... إلى آخره، وهذا من بقية الترجمة. قوله: (والعجم)، أعم من المعطوف عليه من وجه وأخص من وجه آخر، وهذا الذي ذكره هو قول أبي حنيفة، رضي الله تعالى عنه، فإن عنده تؤخذ الجزية من جميع الأعاجم، سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين. وعند الشافعي وأحمد: لا يؤخذ إلا من أهل الكتاب، وعند مالك: يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابي ومجوسي ووثني وغير ذلك، إلا من ارتد، وبه قال الأوزاعي وفقهاء الشام.
وقال ابن عيينة عن ابن أبي نجيح قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار قال جعل ذالك من قبل اليسار
(٧٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 ... » »»