عمدة القاري - العيني - ج ١٥ - الصفحة ١٣١
مزينا بالفهم والفطانة. ومنها: إرشاد الناس وتنبيههم على كمال قدرته على الحشر والنشر، لأن من قدر على خلق الإنسان من ماء مهين ثم من علقة ومضغة مهيأة لنفخ الروح فيه، يقدر على صيرورته ترابا ونفخ الروح فيه وحشره في المحشر للحساب والجزاء. قوله: (ثم يبعث الله ملكا) أي: بعد انتهاء الأربعين الثالثة يبعث الله ملكا (فيؤمر بأربع كلمات) يكتبها وهي: قوله: (ويقال له)، أي: للملك المرسل: (أكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد) وكل ذلك بما اقتضت حكمته وسبقت كلمته. قوله: (وشقي أو سعيد)، كان من حق الظاهر أن يقال: يكتب سعادته وشقاوته، فعدل حكاية لصورة ما يكتبه، لأنه يكتب شقي أو سعيد. قوله: (ثم ينفخ فيه الروح)، أي: بعد كتابة الملك هذه الأربعة ينفخ فيه الروح.
وفي (صحيح مسلم): أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات... الحديث، فهذا يدل على أن كتب هذه الأربعة بعد نفخ الروح، ولفظ البخاري يدل على أن ذلك قبل نفخ الروح، لأن في لفظة: (ثم ينفخ فيه الروح) وكلمة: ثم، تقتضي تأخر كتب الملك هذه الأمور إلى ما بعد الأربعين الثالثة. وقال النووي: والأحاديث الباقية تقتضي الكتب عقيب الأربعين الأولى، ثم أجاب عن ذلك بقوله: إن قوله: ثم يبعث إليه الملك، فيؤذن له فيكتب معطوف على قوله: (يجمع في بطن أمه) ومتعلقاته لا بما قبله، وهو قوله: ثم يكون مضغة مثله، ويكون قوله: ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله، معترضا بين المعطوف والمعطوف عليه، وذلك جائز موجود في القرآن والحديث الصحيح وفي كلام العرب. وقال القاضي وغيره: والمراد بإرسال الملك في هذه الأشياء أمره بها والتصرف فيها بهذه الأفعال، وإلا فقد صرح في الحديث بأنه موكل بالرحم، وأنه يقول: يا رب هذه نطفة يا رب هذه علقة. وقال القاضي: وقوله في الحديث الذي روي عن أنس: وإذا أراد أن يخلق خلقا قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ لا يخالف ما قدمناه، ولا يلزم منه أن يقول ذلك بعد المضغة، بل هو ابتداء كلام وإخبار عن حالة أخرى، فأخبر أولا بحال الملك مع النطفة، ثم أخبر أن الله تعالى إذا أراد أن يخلق النطفة علقة كان كذا وكذا. فإن قلت: في رواية يرسل الملك بعد مائة وعشرين يوما، وفي رواية: ثم يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة، فيقول: يا رب أشقي أم سعيد؟ وفي رواية: إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها، وفي رواية حذيفة بن أسيد: أن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتسور عليها الملك، وفي رواية: أن ملكا موكلا بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئا يأذن له لبضع وأربعين ليلة، وذكر الحديث، وفي رواية أنس، رضي الله تعالى عنه: أن الله قد وكل بالرحم ملكا فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فما الجمع بين هذه الروايات؟ قلت: للملك مراعاة لحال النطفة، وأنه يقول: يا رب هذه نطفة، هذه علقة، هذه مضغة في أوقاتها، وكل وقت يقول فيه ما صارت إليه، ولتصرفه وكلامه أوقات: أحدها حين يخلقها الله نطفة ثم ينقلها علقة وهو أول علم الملك بأنه ولد، لأنه ليس كل نطفة تصير ولدا، وذلك عقيب الأربعين الأولى، فحينئذ يكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، ثم للملك تصرف آخر في وقت آخر، وهو تصويره وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظمه وكونه ذكرا أو أنثى، وذلك إنما يكون في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة، وقبل انقضاء مدة هذه الأربعين، وقبل نفخ الروح فيه، لأن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام صورته. فإن قلت: روي: إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك، وذكر رزقه؟ قلت: ليس هذا على ظاهره ولا يصح حمله على ظاهره، بل المراد بتصورها وخلق سمعها إلى آخره أنه يكتب ذلك ثم يفعله في وقت آخر، لأن التصوير عقيب الأربعين الأولى غير موجود في العادة، وإنما يقع في الأربعين الثالثة وهي مدة المضغة كما قال الله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * (المؤمنون: 8). إلى قوله: * (لحما) * (المؤمنون: 8). ثم يكون للملك فيه تصرف آخر وهو وقت نفخ الروح عقيب الأربعين الثالثة حتى يكمل له أربعة أشهر.
قوله: (حتى ما يكون)، حتى، هي الناصبة و: ما نافية ولفظة: يكون، منصوب بحتى وما غير كافة لها من العمل. قوله: (إلا ذراع)، المراد بالذراع التمثيل والقرب إلى الدخول، أي: ما يبقى بينه
(١٣١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 126 127 128 129 130 131 132 133 134 135 136 ... » »»