عمدة القاري - العيني - ج ١٣ - الصفحة ٨٧
عن الشافعي، وروي ذلك عن أصحاب ابن مسعود. واختلف ابن القاسم وأشهب فيما إذا دعا رجل عبدا يقال له ناصح، فأجابه عبد يقال له مرزوق، فقال له: أنت حر، وهو يظن الأول، وشهد عليه بذلك، فقال ابن القاسم: يعتقان جميعا: مرزوق بمواجهته بالعتق، وناصح بما نواه، وأما فيما بينه وبين الله فلا يعتق إلا ناصح. وقال ابن القاسم: إن لم يكن له عليه بينة لم يعتق إلا الذي نوى، وقال أشهب: يعتق مرزوق فيما بينه وبين الله تعالى، وفيما بينه وبين الله لا يعتق ناصح، لأنه دعاه ليعتقه فأعتق غيره وهو يظنه مرزوقا.
ولا عتاقة إلا لوجه الله تعالى روى الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا: لا طلاق إلا لعدة، ولا عتاق إلا لوجه الله، ومعنى: لا عتاقة إلا لوجه الله، أي: لذات الله أو لجهة رضاء الله، قيل: أراد البخاري بإيراد هذا الرد على الحنفية في قولهم: إذا قال الرجل لعبده: أنت حر للشيطان أو للصنم، فإنه يعتق لصدوره من أهله مضافا إلى محله عن ولاية فنفذ، ولغت تسمية الجهة وكان عاصيا بها. والجواب عنه من وجهين: أحدهما: تصحيح الحديث المذكور، والآخر: بعد التسليم أن المراد به أن يكون نية المعتق الإخلاص فيها، لأن الأعمال بالنيات، فإذا لم يكن خالصا في نيته يكون عاصيا بذكر غير الله، كما ذكرنا، وترك هذا لا يمنع وقوع العتق لقضية: أنت حر، والباقي لغو.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لكل امرىء ما نوى هذا قطعة من حديث عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، قد مر في أول الكتاب بلفظ: (وإنما لكل امرئ ما نوى). وأورده في أواخر كتاب الإيمان: (ولكل امرئ ما نوى). فإن قلت: ما مراده من ذكر هذه القطعة ههنا؟ قلت: كأنه أراد به تأكيد ما سبق من عدم وقوع العتاق إذا كان لغير وجه الله، لأن الأعمال بالنيات، ولكنه لا يفيد شيئا، لأن النية أمر مبطن ووقوع الإعتاق غير متوقف عليه، بل الوقوع بمقتضى الكلام الصحيح، فلا يمنعه تسمية الجهة اللغو.
ولا نية للناسي والمخطىء كأنه استنبط من قوله: (لكل امرئ ما نوى)، عدم وقوع العتاق من الناسي والمخطىء لأنه لا نية لهما، وفيه نظر، لأن الوقوع إنما هو بمقتضى كلام صحيح صادر من عاقل بالغ، والمخطىء من: أخطأ من أراد الصواب فصار إلى غيره، ووقع في رواية القابسي: الخاطىء من خطأ، وهو من تعمد لما لا ينبغي. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون أشار بالترجمة إلى ما ورد في بعض الطرق، وهو الحديث الذي يذكره أهل الفقه والأصول كثيرا بلفظ: (رفع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، أخرجه ابن ماجة من حديث ابن عباس، إلا أنه بلفظ: وضع، بدل: رفع. انتهى. قلت: كأنه أشار إلى هذا الحديث الذي أخبر بأن الخطأ والنسيان رفعا عن أمته، فلا يترتب على الناسي والمخطىء حكم، وذلك لعدم النية فيهما، والأعمال بالنيات، فإذا كان كذلك لا يقع العتاق من الناسي والمخطىء، وكذلك الطلاق، وهو قول الشافعي، لأنه لا اختيار له فصار كالنائم والمغمى عليه، قلنا: الاختيار أمر باطن لا يوقف عليه إلا بحرج فلا يصح تعليق الحكم عليه، أما هذا الحديث فإنه صحيح، فأخرجه الطحاوي بإسناد رجاله رجال الصحيح غير شيخه، حيث قال: حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا بشر بن بكر، قال: أخبرنا الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تجاوز الله لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، فهذا هو الصحيح، والذي أعله إنما أعل إسناد ابن ماجة الذي أخرجه عن محمد بن المصفى الحمصي: حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، فهذا كما ترى أسقط: عبيد بن عمير، وأيضا أعله بأنه من رواية الوليد عن الأوزاعي، والصحيح طريق الطحاوي، وأخرج نحوه الدارقطني والطبراني والحاكم، ورواه ابن حزم من طريق الربيع وصححه، وقال النووي في الأربعين: هو حديث حسن صحيح. قوله: (تجاوز الله) أي: عفا الله. قوله: (لي)، أي: لأجلي، وذلك لأنه لم يتجاوز ذلك إلا عن هذه الأمة
(٨٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 ... » »»