في (شرح مسلم): إنه قال به جمهور أصحاب الشافعي، وممن صححه من المالكية، ابن العربي، فقال: وبكراهته يقول الشافعي وهو الصحيح.
القول الرابع: ما حكاه القاضي عن الداودي أن النهي إنما هو عن تحريه واقتصاصه دون غيره، فإنه متى صام مع صومه يوما غيره فقد خرج عن النهي، لأن ذلك اليوم قبله أو بعده إذ لم يقل اليوم الذي يليه، قال القاضي عياض: وقد يرجح ما قاله قوله في الحديث الآخر: (لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، ولا ليلته بقيام من بين الليالي). قلت: وهذا ضعيف جدا، ويرده حديث جويرية في صحيح البخاري، وقوله لها: (أصمت أمس؟ قالت: لا. قال: تصومين غدا؟ قالت: لا. قال: فأفطري)، فهو صريح في أن المراد به قبله يوم الخميس وما بعده يوم السبت.
القول الخامس: أنه يحرم صوم يوم الجمعة إلا لمن صام يوما قبله أو يوما بعده، أو وافق عادته بأن كان يصوم يوما ويفطر يوما، فوافق يوم الجمعة صيامه، وهو قول ابن حزم لظواهر الأحاديث الواردة في النهي عن تخصيصه بالصوم، وقال بعضهم: واستدل الحنفية بحديث ابن مسعود: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وقل ما كان يفطر يوم الجمعة، قال: وليس فيه حجة، لأنه يحتمل أن يريد: كان لا يتعمد فطره إذا وقع في الأيام التي كان يصومها. قلت: هذا الحديث رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، ورواه النسائي أيضا وصححه ابن حبان وابن عبد البر وابن حزم، والعجب من هذا القائل يترك ما يدل عليه ظاهر الحديث، ويدفع حجيته بالاحتمال الناشئ عن غير دليل الذي لا يعتبر، ولا يعمل به، وهذا كله عسف ومكابرة.
ثم إعلم أنهم اختلفوا أيضا في الحكمة في النهي عن صوم يوم الجمعة مفردا على أقوال:
الأول: ما قاله النووي عن العلماء أنه يوم دعاء وذكر وعبادة من الغسل والتبكير إلى الصلاة وانتظارها واستماع الخطبة، وإكثار الذكر بعدها لقوله تعالى: * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) * (الجمعة: 01). وغير ذلك من العبادات في يومها، فاستحب الفطر فيه ليكون أعون له على هذه الوظائف وأدائها بنشاط وانشراح لها، والتذاذ بها من غير ملل ولا سآمة. قال: وهو نظير الحاج يوم عرفة فإن السنة له الفطر، ثم قال النووي: فإن قيل: لو كان كذلك لم يزل النهي والكراهة بصوم يوم قبله أو بعده لبقاء المعنى؟ ثم أجاب عن ذلك: بأنه يحصل له بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير في وظائف يوم الجمعة بسبب صومه. انتهى قلت: فيه نظر، إذ جبر ما فاته من أعمال يوم الجمعة بصوم يوم آخر لا تختص بكون الصوم قبله بيوم أو بعده بيوم، بل صوم يوم الاثنين أفضل من صوم يوم السبت.
الثاني: هو كونه يوم عيد، والعيد لا صيام فيه، واعترض على هذا بالإذن بصيامه مع غيره، ورد بأن شبهه بالعيد لا يستلزم استواءه معه من كل جهة، ألا ترى أنه لا يجوز صومه مع يوم قبله ويوم بعده؟.
الثالث: لأجل خوف المبالغة في تعظيمه، فيفتتن به كما افتتن اليهود بالسبت، واعترض عليه بثبوت تعظيمه بغير الصيام، وأيضا فاليهود لا يعظمون السبت بالصيام، فلو كان الملحوظ موافقتهم لتحتم صومه لأنهم لا يصومون، وروى النسائي من حديث أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين والخميس، وكان يقول: إنهما يوما عيد للمشركين، فأحب أن أخالفهم، وأخرجه ابن حبان وصححه.
الرابع: خوف اعتقاد وجوبه، واعترض عليه بصوم الاثنين والخميس.
الخامس: خشية أن يفرض عليهم كما خشي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من قيام الليل. قيل: هو منتقض بإجازة صومه مع غيره، ولأنه لو كان ذلك لجاز بعده صلى الله عليه وسلم لارتفاع السبب.
السادس: مخالفة النصارى، لأنه لا يجب عليهم صومه ونحن مأمورون بمخالفتهم، نقله القمولي، قال بعضهم: وهو ضعيف، ولم يبين وجهه قيل أقوى الأقوال وأولاها بالصواب ما ورد فيه صريحا حديثان: أحدهما ما رواه الحاكم وغيره من طريق عامر بن لدين عن أبي هريرة مرفوعا، (يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده). والثاني: ما رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: (من كان منكم متطوعا من الشهر فليصم يوم الخميس ولا يصم يوم الجمعة، فإنه يوم طعام وشراب وذكر).
5891 حدثنا عمر بن حفص بن غياث قال حدثنا أبي قال حدثنا الأعمش قال حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا يصومن أحدكم يوم الجمعة