عمدة القاري - العيني - ج ١٠ - الصفحة ٢٥٨
صاحبه ما يؤذيه من الشهوات، وقال عياض: معناه يستر من الآثام أو من النار أو بجميع ذلك، وبالأخير قطع النووي. قوله: (فلا يرفث)، بفتح الفاء وكسرها وضمها معناه: لا يفحش، والمراد من الرفث هنا الكلام الفاحش، ويطلق على الجماع وعلى مقدماته، وعلى ذكره مع النساء، ويحتمل أن يكون النهي عما هو أعم منها. قوله: (ولا يجهل) أي: لا يفعل شيئا من أفعال الجاهلية: كالعياط والسفه والسخرية، ووقع في رواية سعيد بن منصور من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه: (فلا يرفث ولا يجادل، وقال القرطبي: لا يفهم من هذا أن غير الصوم يباح فيه ما ذكر، وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكد بالصوم. قوله: (وإن امرؤ قاتله)، كلمة: إن، مخففة موصولة بما بعده تقديره: وإن قاتله امرؤ، ولفظ: قاتله، يفسره كما في قوله تعالى: * (وإن أحد من المشركين استجارك) * (التوبة: 6). أي: استجارك أحد من المشركين. ومعنى قاتله: نازعه ودافعه. قوله: (أو شاتمه) أي: أو تعرض للمشاتمة، وفي رواية أبي صالح: (فإن سابه أحد)، وفي رواية أبي قرة عن طريق سهيل عن أبيه: (وإن شتمه إنسان فلا يكلمه)، ونحوه في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد، وفي رواية سعيد بن منصور من طريق سهيل: (فإن سابه أحد أو ماراه)، يعني: جادله، وفي رواية ابن خزيمة من طريق عجلان مولى المشمعل عن أبي هريرة: (فإن شاتمك أحد، فقل: إني صائم، وأن كنت قائما فاجلس). وقد ذكرنا في رواية الترمذي، (وإن جهل على أحدكم جاهل وهو صائم فليقل: إني صائم).
قال شيخنا زين الدين: اختلف العلماء في هذا على ثلاثة أقوال: أحدهما: أن يقول ذلك بلسانه إني صائم حتى يعلم من يجهل أنه معتصم بالصيام عن اللغو والرفث والجهل والثاني أن يقول ذلك لنفسه أي: وإذا كنت صائما فلا ينبغي أن أخدش صومي بالجهل ونحوه، فيزجر نفسه بذلك. والقول الثالث: التفرقة بين صيام الفرض والنفل، فيقول ذلك بلسانه في الفرض، ويقوله لنفسه في التطوع، قوله: (فليقل)، قال الكرماني: أي: كلاما لسانيا ليسمعه الشاتم والمقاتل فينزجر غالبا أو كلاما نفسانيا أي: يحدث به نفسه ليمنعها من مشاتمته، وعند الشافعي: يجب الحمل على كلا المعنيين.
واعلم أن كل أحد منهي عن الرفث والجهل والمخاصمة، لكن النهي في الصائم آكد. قال الأوزاعي: يفطر السب والغيبة، فقيل: معناه أنه يصير في حكم المفطر في سقوط الأجر لا أنه يفطر حقيقة. انتهى كلامه. فإن قلت: قاتله أو شاتمه من باب المفاعلة وهي للمشاركة بين الاثنين، والصائم مأمور بالكف عن ذلك؟ قلت: لا يمكن حمله على أصل الباب، ولكنه قد يجيء بمعنى: فعل، يعني لنسبة الفعل إلى الفاعل لا غير، كقولك: سافرت بمعنى نسبت السفر إلى المسافر، وكما في قولهم: عافاه الله، وفلان عالج الأمر، ويؤيد هذا ما ذكرنا من رواية سهيل عن أبيه: (وإن شتمه إنسان فلا يكلمه)، وقد مضى عن قريب.
قوله: (مرتين) اتفقت الروايات كلها على أنه يقول: إني صائم، فمنهم من ذكرها مرتين، ومنهم من اقتصر على واحدة. قوله: (والذي نفسي بيده)، أقسم على ذلك للتأكيد. قوله: (لخلوف فم الصائم) بضم الخاء المعجمة لا غير، هذا هو لمعروف في كتب اللغة، والحديث، ولم يحك صاحبا (المحكم) و (الصحاح) غيره. وقال عياض: وكثير من الشيوخ يروونه بفتحها، قال الخطابي: وهو خطأ. قال القاضي: وحكي عن القابسي فيه الفتح والضم، وقال أهل المشرق: يقولونه بالوجهين والصواب الأول. وفي (التلويح): وفي رواية (لخلفة فم الصائم)، بالضم أيضا، وقال البرقي: هو تغير طعم الفم وريحه لتأخر الطعام، يقال: خلف فوه بفتح الخاء واللام يخلف، بضم اللام وأخلف يخلف إذا تغير، واللغة المشهورة: خلف. وقال المازري: هذا مجاز واستعارة، لأن استطابة بعض الروائح من صفات الحيوان الذي له طباع يميل إلى شيء يستطيبه وينفر من شيء يستقذره، والله سبحانه وتعالى تقدس عن ذلك، لكن جرت عادتنا على التقرب للروائح الطيبة، فاستغير ذلك في الصوم لتقريبه من الله تعالى، وقال عياض: يجازيه الله تعالى به في الآخرة، فتكون نكهته أطيب من ريح المسك، وقيل: لكثرة ثوابه وأجره، وقيل: يعبق في الآخرة أطيب من عبق المسك، وقيل: طيبه عند الله رضاه به، وثناؤه الجميل، وثوابه. وقيل: إن المراد أن ذلك في حق الملائكة وأنهم يستطيبون ريح الخلوق أكثر مما يستطيبون ريح المسك، وقال البغوي: معناه الثناء على الصائم والرضى بفعله، وكذا قاله القدوري من الحنفية، وابن العربي من المالكية، وأبو عثمان الصابوني وأبو بكر بن السمعاني وغيرهم من الشافعية، جزموا كلهم بأنه عبارة عن الرضى والقبول، وقال القاضي، وقد يجزيه الله تعالى في الآخرة حتى تكون نكهته أطيب من ريح المسك، كما
(٢٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 253 254 255 256 257 258 259 260 261 262 263 ... » »»