عمدة القاري - العيني - ج ١٠ - الصفحة ٢٥٩
قال في الكلوم في سبيل الله: (الريح ريح مسك). وقال شيخنا زين الدين، رحمه الله تعالى، وقد اختلف الشيخ تقي الدين ابن الصلاح والشيخ عز الدين بن عبد السلام في طيب رائحة الخلوف، هل هي في الدنيا أو في الآخرة؟ فذهب ابن عبد السلام إلى أن ذلك في الآخرة، كما في دم الشهيد، واستدل بما رواه مسلم وأحمد والنسائي من طريق عطاء عن أبي صالح: (أطيب عند الله يوم القيامة)، وذهب ابن الصلاح إلى أن ذلك في الدنيا، فاستدل بما رواه ابن حبان: (فم الصائم حين يخلف من الطعام)، وبما رواه الحسن بن شعبان في (مسنده) والبيهقي في (الشعب) من حديث جابر في فضل هذه الأمة: (فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك). وقال المنذري: إسناده مقارب، وقال ابن بطال: معنى (عند الله) أي: في الآخرة، كقوله تعالى: * (وإن يوما عند ربك) * (الحج: 74). يريد أيام الآخرة. فإن قلت: يعكر عليه بحديث البيهقي على ما لا يخفى؟ قلت: لا مانع من أن يكون ذلك في الدنيا والآخرة. قوله: (يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلى) أي: قال الله تعالى: يترك الصائم طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، إنما قدرنا هذا ليصح المعنى، لأن سياق الكلام يقتضي أن يكون ضمير المتكلم في لفظ: (والذي نفسي بيده) ولفظ: (لأجلي)، من متكلم واحد فلا يصح المعنى على ذلك، فلذلك قدرنا ذلك، ويؤيد ما قلناه ما رواه أحمد عن إسحاق بن الطباع عن مالك، فقال بعد قوله: (من ريح المسك، يقول الله، عز وجل: إنما يذر شهوته وطعامه) وكذلك رواه سعيد بن منصور عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد، فقال في أول الحديث: (يقول الله، عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به، وإنما يذر ابن آدم شهوته وطعامه من أجلي). قيل: المراد بالشهوة في الحديث شهوة الجماع لعطفها على الطعام والشراب. قلت: الشهوة أعم، فيكون من قبيل عطف العام على الخاص، ولكن قدم لفظ الشهوة سعيد بن منصور في الحديث المذكور آنفا، وكذلك من رواية الموطأ بتقديم الشهوة عليهما، فيكون من قبيل عطف الخاص على العام، وفي رواية ابن خزيمة من طريق سهيل عن أبي صالح عن أبيه: (يدع الطعام والشراب من أجلي، ويدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي)، وفي رواية أبي قرة من هذا الوجه: (يدع امرأته وشهوته وطعامه وشرابه من أجلي)، وأصرح من ذلك ما وقع عند الحافظ سمويه: (من الطعام والشراب والجماع من أجلي)، وقال الكرماني هنا: فإن قلت: فهذا قول الله وكلامه، فما الفرق بينه وبين القرآن؟ قلت: القرآن لفظه معجز ومنزل بواسطة جبريل، عليه السلام، وهذا غير معجز وبدون الواسطة، ومثله يسمى بالحديث القدسي والإل 1764; هي والرباني. فإن قلت: الأحاديث كلها كذلك، وكيف، وهو: ما ينطق عن الهوى؟ قلت: الفرق بأن القدسي مضاف إلى الله ومروي عنه، بخلاف غيره، وقد يفرق بأن القدسي ما يتعلق بتنزيه ذات الله تعالى وبصفاته الجلالية والجمالية منسوبا إلى الحضرة تعالى وتقدس، وقال الطيبي: القرآن هو اللفظ المنزل به جبريل، عليه السلام، على رسول الله صلى الله عليه وسلم للإعجاز، والقدسي إخبار الله رسوله معناه بالإلهام أو بالمنام، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بعبارة نفسه، وسائر الأحاديث لم يضفه إلى الله ولم يروه عنه. قوله: (الصيام لي)، كذا وقع بغير أداة عطف ولا غيرها، وفي (الموطأ): (فالصيام)، بالفاء وهي للسببية أي: بسبب كونه لي إنه يترك شهوته لأجلي، ووقع في رواية مغيرة عن أبي الزناد عن سعيد بن منصور: (كل عمل ابن آدم هو له إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به)، ومثله في رواية عطاء عن أبي صالح التي تأتي. قوله: (وأنا أجزي به)، بيان لكثرة ثوابه، لأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى عظمته وسعته، وقال الكرماني: تقديم الضمير للتخصيص أو للتأكيد والتقوية؟ قلت: يحتملهما، لكن الظاهر من السياق الأول أي: أنا أجازيه لا غيري بخلاف سائر العبادات، فإن جزاءها قد يفوض إلى الملائكة، وقد أكثروا في معنى قوله: (الصوم لي وأنا أجزي به)، وملخصه: أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره، لأنه لا يظهر من ابن آدم بفعله، وإنما هو شيء في القلب، ويؤيده ما رواه الزهري مرسلا. قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس في الصوم رياء)، رواه أبو عبيد في كتاب الغريب عن شبابة عن عقيل عن الزهري، قال: وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا بالحركات إلا الصوم فإنما هو بالنية التي تخفى على الناس، وروى البيهقي هذا من وجه آخر: عن الزهري موصولا عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ولفظه: (الصيام لا رياء فيه، قال الله، عز وجل: هو لي) وفيه مقال، قيل: لا يدخله الرياء بفعله وقد يدخله بقوله، بأن أخبر أنه صائم فكان دخول الرياء فيه من جهة الإخبار، بخلاف بقية الأعمال، فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها. قلت: فيه نظر
(٢٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 254 255 256 257 258 259 260 261 262 263 264 ... » »»