هذا إشباعا للكلام والنفي فيه للكمال لا للحقيقة، والمعنى: لا صدقة كاملة إلا عن ظهر غنى، والظهر مضاف إلى غنى وهو بكسر الغين مقصورا ضد الفقر، قال ابن قرقول، ومنه خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، أي: ما أبقت غنى. قيل: معناه الصدقة بالفضل عن قوت عياله وحاجته، وقال الخطابي: أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من مال بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية لأهله وعياله، ولذلك يقول: وابدأ بمن تعول. وقال محيي السنة: أي: غنى مستظهر به على النوائب التي تنوبه.
ومن تصدق وهو محتاج أو أهله محتاج أو عليه دين فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة وهو رد عليه ليس له أن يتلف أموال الناس هذا كله من الترجمة وقع تفسيرا لقوله: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى)، والمعنى أن شرط التصدق أن لا يكون محتاجا ولا أهله محتاجا ولا يكون عليه دين فإذا كان عليه دين فالواجب أن يقضي دينه، وقضاء الدين أحق من الصدقة والعتق والهبة لأن الابتداء بالفرائض قبل النوافل، وليس لأحد إتلاف نفسه وإتلاف أهله وإحياء غيره، وإنما عليه إحياء غيره بعد إحياء نفسه وأهله إذ هما أوجب عليه من حق سائر الناس. قوله: (وهو محتاج) جملة اسمية وقعت حالا، والجملتان بعدها أيضا حال. قوله: (فالدين أحق) جزاء الشرط، وفيه محذوف أي: فهو أحق وأهله أحق والدين أحق. قوله: (وهو رد) أي: غير مقبول، لأن قضاء الدين واجب والصدقة تطوع ومن أخذ دينا وتصدق به ولا يجد ما يقضي به الدين فقد دخل تحت وعيد من أخذ أموال الناس، ومقتضى قوله: (وهو رد عليه) أن يكون الدين المستغرق مانعا من صحة التبرع، لكن هذا ليس على الإطلاق وإنما يكون مانعا إذا حجر عليه الحاكم، وأما قبل الحجر فلا يمنع، كما تقرر ذلك في موضعه في الفقه، فعلى هذا إما يحمل إطلاق البخاري عليه أو يكون مذهبه أن الدين المستغرق يمنع مطلقا، ولكن هذا خلاف ما قاله العلماء، حتى إن ابن قدامة وغيره نقلوا الإجماع على أن المنع إنما يكون بعد الحجر.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله هذا أيضا من الترجمة، قد ذكر فيها خمسة أحاديث معلقة هذا أولها وهذا طرف من حديث أبي هريرة، وصله البخاري في الاستقراض في: باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي حدثنا سليمان عن بلال (عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله).
إلا أن يكون معروفا بالصبر فيؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة كفعل أبي بكر رضي الله تعالى عنه حين تصدق بماله قوله: (إلا أن يكون) من كلام البخاري، وهو استثناء من الترجمة أو من لفظ: من تصدق وهو محتاج، أي: فهو أحق إلا أن يكون معروفا بالصبر، فإنه حينئذ له أن يؤثر غيره على نفسه ويتصدق به، وإن كان غير غني أو محتاجا إليه. قوله: (خصاصة) أي: فقر وخلل. قوله: (كفعل أبي بكر حين تصدق بماله) أي: بجميع ماله، لأنه كان صابرا، وقد يقال: تخلي أبي بكر عن ماله كان عن ظهر غنى، لأنه كان غنيا بقوة توكله، وتصدق أبي بكر بجميع ماله مشهور في السير، وورد في حديث مرفوع أخرجه أبو داود وصححه الترمذي والحاكم من طريق زيد بن أسلم: سمعت عمر، رضي الله تعالى عنه، يقول: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، فجئت بنصف مالي وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله). وقال الطبري وغيره، قال الجمهور: من تصدق بماله كله في صحة بدنه وعقله حيث لا دين عليه وكان صبورا على الإضافة، ولا عيال له، أو له عيال يصبرون أيضا. فهو جائز، فإن فقد شيئا من هذه الشروط كره. وقال بعضهم: هو مردود، وروي عن عمر، رضي الله تعالى عنه، حيث رد على غيلان الثقفي قسمة ماله، وقال آخرون: يجوز من الثلث، ويرد عليه الثلثان، وهو قول الأوزاعي ومكحول، وعن مكحول أيضا