عمدة القاري - العيني - ج ٧ - الصفحة ٧١
طويلتين) وهو الذي جزم به النووي في المنهاج. قوله: (ثم انصرف) أي: من الصلاة. قوله: (وقد تجلت الشمس) أي: انكشفت، وفي رواية ابن شهاب، (وقد انجلت الشمس قبل أن ينصرف)، وفي رواية: (ثم تشهد وسلم). قوله: (فخطب الناس) صريح في استحبابها، وبه قال الشافعي وإسحاق وابن جرير وفقهاء أصحاب الحديث، وتكون بعد الصلاة. وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: لا خطبة فيها، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلاة والتكبير والصدقة، ولم يأمرهم بالخطبة، ولو كانت سنة لأمرهم بها، ولأنها صلاة كان يفعلها المنفرد في بيته فلم يشرع لها خطبة، وإنما خطب صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة ليعلمهم حكمها وكأنه مختص به، وقيل: خطب بعدها لا لها، بل ليردهم عن قولهم: إن الشمس كسفت لموت إبراهيم، كما في الحديث. وقال بعضهم: والعجب أن مالكا روى حديث هشام هذا، وفيه التصريح بالخطبة، ولم يقل به أصحابه؟ قلت: ليس بعجب ذلك، فإن مالكا وإن كان قد رواها فيه وعللها بما قلنا فلم يقل بها، وتبعه أصحابه فيها. قوله: (فحمد الله وأثنى عليه) زاد النسائي في حديث سمرة: (ويشهد أنه عبد الله ورسوله). قوله: (فادعوا الله) رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: (فاذكروا الله). قوله: (أغير) أفعل التفضيل من الغيرة، وهي تغير يحصل من الحمية والأنفة، وأصلها في الزوجين والأهلين، وكل ذلك مخال على الله عز وجل، وهو مجاز محمول على غاية إظهار غضبه على الزاني. قيل: لما كانت ثمرة الغيرة صون الحريم ومنعهم وزجرهم من يقصدهم وزجر من يقصد إليهم، أطلق ذلك لكونه منع من فعل ذلك وزجر فاعله وتوعده، فهو من باب تسمية الشيء بما يترتب عليه. وقال ابن فورك: المعنى: ما أحد أكثر زجرا عن الفواحش من الله تعالى. وقال ابن دقيق العيد: أهل التنزيه في مثل هذا على قولين: إما ساكت وإما مؤول، على أن المراد من الغيرة شدة المنع والحماية، وقيل: معناه ليس أحدا منع من المعاصي من الله ولا أشد كراهة لها منه. قلت: يجوز أن يكون هذا استعارة مصرحة تبعية قد شبه حال ما يفعل الله مع عبده الزاني من الانتقام وحلول العقاب بحالة ما يفعله العبد لعبده الزاني من الزجر والتعزير. فإن قلت: كيف إعراب: أغير؟ قلت: بالنصب خبر: ما، النافية، ويجوز الرفع على أن يكون خبرا للمبتدأ، أعني قوله: (أحد). وكلمة: من، زائدة لتأكيد العموم. وقوله: (أن يزني) يتعلق بأغير، وحذف الجار وهي: في، أو: على فإن قلت: ما وجه تخصيص العبد والأمة بالذكر؟ قلت: رعاية لحسن الأدب مع الله تعالى لتنزهه عن الزوجة والأهل ممن تعلق بهم الغيرة غالبا. فإن قلت: ما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله من قوله: (فاذكروا الله) إلى آخره؟ قلت: قال الطيبي: المناسبة من جهة أنهم لما أمروا باستدفاع البلاء بالذكر والصلاة والصدقة ناسب ردعهم عن المعاصي التي هي من أسباب جلب البلاء، وخص منها الزنا لأنه أعظمها في ذلك. وقيل: لما كانت هذه المعصية من أقبح المعاصي وأشدها تأثيرا في إثارة النفوس وغلبة الغضب، ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة رب الغيرة وخالقها. قوله: (يا أمة محمد) قيل: فيه معنى الإشفاق كما يخاطب الوالد ولده، إذا أشفق عليه بقوله: (يا بني) قلت: ليس هذا مثل المثال الذي ذكره، فلو كان قال: يا أمتي، بالنسبة إليه لكان من هذا الباب، وإنما هذا يشبه أن يكون من باب التجريد، كأنه أبعدهم عنه فخاطبهم بهذا الخطاب، لأن المقام مقام التخويف والتحذير. قوله: (والله لو تعلمون) أي: من عظم انتقام الله من أهل الجرائم وشدة عقابه وأهوال القيامة وأحوالها كما علمته لما ضحكتم أصلا، إذ القليل بمعنى العديم على ما يقتضيه السياق، فإن قلت: لا يرتاب في صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فلم صدر كلامه بقوله (والله) في الموضعين؟ قلت: لإرادة التأكيد لخبره، وإن كان لا يشك فيه، لأن المقام مقام الإنكار عما يليق فعله فيقتضي التأكيد. وقيل: معنى هذا الكلام: لو علمتم من سعة رحمة الله وحلمه ولطفه وكرمه ما أعلم لبكيتم على ما فاتكم من ذلك. وقيل: إنما خص نفسه صلى الله عليه وسلم بعلم لا يعلمه غيره لأنه لعله أن يكون ما رآه في عرض الحائط من النار، ورأى فيها منظرا شديدا لو علمت أمته من ذلك ما علم صلى الله عليه وسلم لكان ضحكهم قليلا وبكاؤهم كثيرا، إشفاقا وخوفا. وقد حكى ابن بطال عن المهلب: أن سبب ذلك ما كان عليه الأنصار من محبة اللهو والغناء، وأطنب فيه ورد عليه ذلك بأنه قول بلا دليل ولا حجة في تخصيصهم بذلك والقضية كانت في أواخر زمنه صلى الله عليه وسلم مع كثرة الأصناف من الخلائق في المدينة يومئذ.
(٧١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 ... » »»