خسوف القمر كما يجمع في كسوف الشمس، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأهل الحديث، وذهب أبو حنيفة وأحمد ومالك إلى أن: ليس في خسوف القمر جماعة. قلت: أبو حنيفة لم ينف الجماعة فيه، وإنما قال: الجماعة فيه غير سنة، بل هي جائزة وذلك لتعذر اجتماع الناس من أطراف البلد بالليل، وكيف وقد ورد قوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)؟ وقال مالك: لم يبلغنا، ولا أهل بلدنا، أنه صلى الله عليه وسلم جمع لكسوف القمر، ولا نقل عن أحد من الأئمة بعده أنه صلى الله عليه وسلم جمع فيه. ونقل ابن قدامة في (المغني) عن مالك: ليس في كسوف القمر سنة ولا صلاة، وقال المهلب: يمكن أن يكون تركه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم، رحمة للمؤمنين لئلا تخلو بيوتهم بالليل فيخطفهم الناس ويسرقون، يدل على ذلك قوله: صلى الله عليه وسلم لأم سلمة ليلة نزول التوبة على كعب بن مالك وصاحبيه: (قلت له: ألا أبشر الناس؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أخشى أن يخطفهم الناس). وفي حديث آخر: (أخشى أن يمنع الناس نومهم). وقال تعالى: * (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه) * (القصص: 37). فجعل السكون في الليل من النعم التي عددها الله تعالى على عباده، وقد سمى ذلك رحمة، وقد قال ابن القصار: خسوف القمر يتفق ليلا فيشق الاجتماع له، وربما أدرك الناس نياما فيثقل عليهم الخروج لها، ولا ينبغي أن يقاس على كسوف الشمس، لأنه يدرك الناس مستيقظين متصرفين، ولا يشق اجتماعهم كالعيدين والجمعة والاستسقاء. فإن قلت: روي عن الحسن البصري، قال: خسف القمر وابن عباس بالبصرة، فصلى بنا ركعتين في كل ركعة ركعتان، فلما فرغ خطبنا: وقال: صليت بكم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا. رواه الشافعي في (مسنده) وذكره ابن التين بلفظ: (أنه صلى في خسوف القمر ثم خطب، وقال: يا أيها الناس إني لم ابتدع هذه الصلاة بدعة، وإنما فعلت كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل). وقد علمنا أنه صلاها في جماعة لقوله: (خطب) لأن المنفرد لا يخطب، وروى الدارقطني عن عروة عن عائشة: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في خسوف الشمس أربع ركعات وأربع سجدات ويقرأ في الأولى بالعنكبوت أو الروم وفي الثانية بيس). قلت: أما رواية الحسن فرواها الشافعي عن إبراهيم بن محمد وهو ضعيف، وقول الحسن: خطبنا، لا يصح، فإن الحسن لم يكن بالبصرة لما كان ابن عباس بها. وقيل: إن هذا من تدليساته. وأما حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، فمستغرب. فإن قلت: روى الدارقطني أيضا من طريق حبيب: (عن طاووس عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كسوف الشمس والقمر ثمان ركعات في أربع سجدات). قلت: في إسناده نظر، والحديث في مسلم وليس فيه ذكر: القمر، والعجب من شيخنا زين الدين العراقي، رحمه الله، يقول: لم تثبت صلاته صلى الله عليه وسلم لخسوف القمر بإسناد متصل، ثم ذكر حديث عائشة وحديث ابن عباس اللذين رواهما الدارقطني، وقال: ورجال إسنادهما ثقات، ولكن كون رجالهما ثقات لا يستلزم اتصال الإسناد. ولا نفي المدرج,.
الأسئلة والأجوبة منها ما قيل: ما الحكمة في الكسوف؟ والجواب:: ما قاله أبو الفرج: فيه سبع فوائد. الأول: ظهور التصرف في الشمس والقمر. الثاني: تبيين قبح شأن من يعبدهما. الثالث: إزعاج القلوب الساكنة بالغفلة عن مسكن الذهول. الرابع: ليرى الناس نموذج ما سيجري في القيامة من قوله: * (وجمع الشمس والقمر) * (القيامة: 9). الخامس: أنهما يوجدان على حال التمام فيركسان، ثم يلطف بهما فيعادان إلى ما كانا عليه، فيشار بذلك إلى خوف المكر ورجاء العفو. السادس: أن يفعل بهما صورة عقاب لمن لا ذنب له. السابع: أن الصلوات المفروضات عند كثير من الخلق عادة لا انزعاج لهم فيها ولا وجود هيبة، فأتى بهذه الآية وسنت لهما الصلاة ليفعلوا صلاة على انزعاج وهيبة.
ومنها ما قيل: أليس في رؤية الأهلة وحدوث الحر والبرد وكل ما جرت العادة بحدوثه من آيات الله تعالى فما معنى قوله في الكسوفين: (أنهما آيتان)؟ وأجيب: بأن: هذه الحوادث آيات دالة على وجوده، عز وجل، وقدرته. وخص الكسوفين لإخباره صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل أن القيامة تقوم وهما منكوسان وذاهبا النور، فلما أعلمهم بذلك أمرهم عند رؤية الكسوف بالصلاة والتوبة خوفا من أن يكون الكسوف لقيام الساعة ليعتدوا لها. وقال المهلب: يحتمل أن يكون هذا قبل أن يعلمه الله تعالى بأشراط الساعة.
ومنها ما قيل: ما الكسوف؟ وأجيب: بأنه تغير يخلقه الله تعالى فيهما لأمر يشاؤه ولا يدري ما هو، أو يكون تخويفا للاعتبار بهما مع عظم خلقهما، وكونهما عرضة للحوادث، فكيف بابن آدم الضعيف الخلق؟ وقيل: يحتمل أن يكون الخسوف فيهما عند تجلي الله سبحانه لهما، وفي حديث قبيصة الهلالي عند أبي داود والنسائي الإشارة إلى ذلك، فقال فيه: (أن