عمدة القاري - العيني - ج ٦ - الصفحة ٢٤٢
ويحتمل الانتظار ويحتمل المواظبة على الشيء لا الوقوف من قوله تعالى: * (ما دمت عليه قائما) * (آل عمران: 75). يعني: مواظبا وقال النووي: قال بعضهم: معنى (يصلي)، يدعو، ومعنى: (قائم)، ملازم ومواظب، وإنما ذكر هذه الاحتمالات لئلا يرد الإشكال بأصح الأحاديث الواردة في تعيين الساعة المذكورة، وهما حديثان: أحدهما من جلوس الخطيب على المنبر إلى انصرافه من الصلاة. والآخر: من بعد العصر إلى غروب الشمس، ففي الأول حال الخطبة كله، وليست صلاة حقيقة وفي الثاني: ليست ساعة صلاة ألا ترى أن أبا هريرة، رضي الله تعالى عنه، لما روى حديثه المذكور قال: (فلقيت عبد الله بن سلام، فذكرت له هذا الحديث، فقال: أنا أعلم تلك الساعة، فقلت: أخبرني بها ولا تضنن بها علي! قال: هي بعد العصر إلى أن تغرب الشمس. قلت: وكيف تكون بعد العصر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي)، وتلك الساعة لا يصلي فيها؟ قال عبد الله ابن سلام: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة؟ قلت: بلى، قال: فهو ذاك) انتهى. فهذا دل على أن المراد من الصلاة الدعاء ومن القيام الملازمة والمواظبة لا حقيقة القيام، ولهذا سقط قوله: (قائم)، من رواية أبي مصعب وابن أبي أويس ومطرف والتنيسي وقتيبة، وأثبتها الباقون. قال أبو عمر: وهذه زيادة محفوظة عن أبي الزناد من رواية مالك وورقاء وغيرهما عنه، وكان محمد بن وضاح يأمر بحذف هذه الزيادة من الحديث لأجل أنه كان يستشكل بالإشكال الذي ذكرناه، ولكن الجواب ما ذكرناه. قوله: (شيئا) أي: مما يليق أن يدعو به المسلم ويسأل الله، وفي رواية عند البخاري في الطلاق: (يسأل الله خيرا)، وفي رواية لمسلم كذلك، وفي رواية ابن ماجة: (ما لم يسأل حراما). وعند أحمد في حديث سعد بن عبادة: (ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم)، فإن قلت: قطيعة رحم من جملة الإثم. قلت: هو من عطف الخاص على العام للاهتمام به. قوله: (وأشار بيده)، أي: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وكذا هو في رواية أبي مصعب عن مالك. قوله: (يقللها)، جملة وقعت حالا، وهو من التقليل خلاف التكثير، يريد أن الساعة لحظة خفيفة، وفي رواية لمسلم: (يزهدها)، وهو بمعناه،، وفي لفظ: (وهي ساعة خفيفة)، وللطبراني في (الأوسط) في حديث أنس: (وهي قدر هذا)، يعني قبضة. ثم بقي الكلام هنا في بيان الساعة المذكورة وبيان ما فيها من الأقوال وهو مشتمل على وجوه:
الأول: في حقيقة الساعة، وهي: اسم لجزء مخصوص من الزمان ويرد على أنحاء: أحدها يطلق على جزء من أربعة وعشرين جزأ، وهي مجموع اليوم والليلة، وتارة تطلق مجازا على جزء ما غير مقدر من الزمان. فلا يتحقق. وتارة تطلق على الوقت الحاضر، ولأرباب النجوم والهندسة وضع آخر، وذلك أنهم يقسمون كل نهار وكل ليلة باثني عشر قسما سواء كان النهار طويلا أو قصيرا، وكذلك الليل، ويسمون كل ساعة من هذه الأقسام ساعة، فعلى هذا تكون الساعة تارة طويلة وتارة قصيرة على قدر النهار في طوله وقصره، ويسمون هذه الساعات المعوجة، وتلك الأول: مستقيمة.
الثاني: إن في هذه الساعة اختلافا هل هي باقية أو رفعت؟ فزعم قوم أنها رفعت، حكاه أبو عمر بن عبد البر وزيفه، وقال عياض: رده السلف على قائله، واحتج أبو عمر فيه بما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن داود بن أبي عاصم (عن عبد الله بن يحنس مولى معاوية، قال: قلت لأبي هريرة: زعموا أن الساعة التي في يوم الجمعة قد رفعت؟ قال: كذب من قال ذلك. قلت: فهي باقية في كل جمعة استقبلها؟ قال: نعم). إسناده قوي، قال أبو عمر على هذا تواترت الأخبار. وفي (صحيح الحاكم) من حديث أبي سلمة: (قلت: يا أبا سعيد، إن أبا هريرة حدثنا عن الساعة التي في يوم الجمعة، هل عندك فيها علم؟ فقال: سألنا النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: إني كنت أعلمها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر). ثم قال: صحيح. وخرجه ابن خزيمة أيضا في (صحيحه) وفي (كتاب ابن زنجويه): عن محمد ابن كعب القرظي أن كلبا مر بعد العصر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من الصحابة: اللهم اقتله، فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد وافق هذا الساعة التي إذا دعي استجيب.
الثالث: أنها لما ثبت أنها باقية، هل هي في كل جمعة أو في جمعة واحدة من كل سنة؟ قال كعب الأحبار: في كل سنة يوم، فقال أبو هريرة، بلى في كل جمعة! قال: فقرأ كعب التوراة، فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود والنسائي والترمذي، فرجع كعب إليه.
الوجه الرابع: في بيان وقتها، وهو على أقوال، فقيل: هي مخفية في جميع اليوم كليلة القدر، قاله ابن قدامة، وحكاه القاضي
(٢٤٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 237 238 239 240 241 242 243 244 245 246 247 ... » »»