الأوزاعي عن الزهري، فذكره بلفظ: (قرأ قراءة طويلة فجهر بها)، يعني: في صلاة الكسوف، وفي رواية الترمذي من رواية سفيان بن حسين عن الزهري، بلفظ: (صلى صلاة الكسوف وجهر بها في القراءة). وقال: هذا حديث حسن صحيح، وعند أصحاب السنن من حديث سمرة وابن عباس كما ذكرنا: أنهما لم يسمعا حرفا، ولا شك أن حديث عائشة أصرح بالجهر فيها، وحديثها متفق عليه، وقد أجاب عنه القائلون بالإسرار بجوابين: أحدهما: ما قاله النووي في (شرح مسلم): بأن هذا عند أصحابنا، والجمهور محمول على كسوف القمر. والثاني: ما قاله ابن عبد البر في (الاستذكار) من الإشارة إلى تضعيف الحديث قلت: يرد الجواب الأول ما رواه إسحاق بن راهويه عن الوليد بن مسلم بإسناده إلى عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم في كسوف الشمس وجهر بالقراءة). رواه الخطابي في (أعلام الجامع الصحيح) من طريق ابن راهويه. وأما تضعيف ابن عبد البر الحديث فكأنه من جهة سفيان بن حسين عن الزهري، فإن أحمد قال: ليس بذلك في حديثه عن الزهري، وعن يحيى: ثقة في غير الزهري لا يدفع قلت: قال يعقوب ابن شيبة: صدوق ثقة، روى له مسلم في مقدمة كتابه، واستشهد به البخاري، وروى له عن الأربعة ومع ذلك فقد تابعه على ذلك عن الزهري عبد الرحمن بن نمر وسليمان بن كثير، وإن كانا ليني الحديث، وقال شارح الترمذي: وعلى هذا فالمختار الجهر، فلذلك قال الخطابي: إنه أشبه بمذهب الشافعي لقوله: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وقال البخاري: حديث عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة. وقال البيهقي في (الخلافيات): لكنه ليس بأصح من حديث ابن عباس الذي قال فيه نحوا من قراءة سورة البقرة. قال الشافعي: فيه دليل على أنه لم يسمع ما قرأ لأنه لو سمعه لم يقدره بغيره، فإن قيل: قال الشافعي: وروي عن ابن عباس أنه قال: قمت إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم في خسوف الشمس فما سمعت منه حرفا؟ وأجيب: بأنه لا يصح هذا عن ابن عباس، لأن في إسناده ابن لهيعة، وفي آخر الوافدي، وفي آخر الحكم بن أبان.
الوجه السادس: في صلاة خسوف القمر: قال أصحابنا: ليس في خسوف القمر جماعة، وقيل: الجماعة جائزة عندنا لكنها ليست بسنة لتعذر اجتماع الناس بالليل، وإنما يصلي كل واحد منفردا، وعند مالك: لا صلاة فيه، وعند الشافعي: يصلي للخسوف كما يصلي للكسوف بجماعة وركوعين وبالجهر بالقراءة وبخطبتين بينهما جلسة، وبه قال أحمد وإسحاق إلا في الخطبة. واستدل أبو حنيفة ومالك بأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع لكسوف الشمس، ولما خسف القمر في جمادى الآخرة سنة أربع فيما ذكره ابن الجوزي وغيره لم يجمع فيه. وقال مالك: لم يبلغنا ولا أهل بلدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع لخسوف القمر، ولا نقل عن أحد من الأئمة بعده أنه جمع فيه، وذكر ابن قدامة أن أكثر أهل العلم على مشروعية الصلاة لخسوف القمر، فعله ابن عباس، وبه قال عطاء والحسن وأبو ثور، وهو مروي عن عثمان بن عفان وجماعة المحدثين وعمر بن عبد العزيز مستدلين بقوله: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله فإذا رأيتم ذلك فصلوا). وروى الدارقطني من حديث إسحاق بن راشد عن الزهري عن عروة عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات وأربع سجدات ويقرأ في الركعة الأولى بالعنكبوت أو: الروم، وفي الثانية: بيس). وفي حديث قبيصة مرفوعا: (إذا انكسفت الشمس أو القمر فصلوا). وروى الدارقطني بسند جيد من حديث حبيب بن ثابت عن طاووس عن ابن عباس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في كسوف الشمس والقمر ثمان ركعات في أربع سجدات). وبوب البخاري: باب الصلاة في كسوف القمر، على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
فائدة: اختلفت الأحاديث الواردة في كيفية صلاة الكسوف من الاقتصار على ركوعين، كما في حديث أبي بكرة وغيره، وثلاث ركوعات في كل ركعة كما في حديث جابر، وأربع ركوعات في ركعتين كما في حديث عائشة وغيره، وست ركوعات في ركعتين كما في حديث جابر وغيره وثمان ركوعات في ركعتين كما في حديث أبي بن كعب، وخمسة عشر ركعة في ثلاث ركوعات، رواه الحاكم في (المستدرك) عن أبي بن كعب.
ومما يستفاد من الحديث المذكور: أن الجنة والنار مخلوقتان اليوم، وهو مذهب أهل السنة والجماعة. وفيه: أن تعذيب الحيوان غير جائز، وأن المظلوم من الحيوان يسلط يوم القيامة على ظالمه. وفيه: معجزة النبي، صلى الله عليه وسلم.