عمدة القاري - العيني - ج ٥ - الصفحة ٢٠٣
ذكر معناه: وقد ذكرنا أكثر معانيه وما يتعلق به في: باب حد المريض أن يشهد الجماعة، فإنه روى هذا الحديث هناك من حديث الأسود عن عائشة، وبينا هناك ما ذكر فيه من اختلاف الروايات. قوله: (رقيق) أي: رقيق القلب. قوله: (لم يستطع) أي: من البكاء لكثرة الحزن ورقة القلب. قوله: (فعادت) أي: عائشة إلى مقالتها الأولى. قوله: (فإنكن)، الخطاب لجنس عائشة، وإلا فالقياس أن يقال: فإنك، بلفظ المفرد. قوله: (فأتاه الرسول)، أي: فأتى أبا بكر رسول النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الأمر بصلاته بالناس، وكان الرسول هو بلال، رضي الله تعالى عنه. قوله: (فصلى بالناس في حياة النبي، صلى الله عليه وسلمفإن قلت: أي: إلى أن مات، وكذا صرح به موسى بن عقبة في (المغازي) [/ ح.
ذكر ما يستفاد منه: وهو على وجوه: الأول: فيه دلالة على فضل أبي بكر، رضي الله تعالى عنه. الثاني: فيه أن أبا بكر صلى بالناس في حياة النبي، صلى الله عليه وسلم، وكانت في هذه الإمامة التي هي الصغرى دلالة على الإمامة الكبرى. الثالث: فيه أن الأحق بالإمامة هو الأعلم، واختلف العلماء فيمن هو أولى بالإمامة. فقالت طائفة: الأفقه، وبه قال أبو حنيفة ومالك والجمهور. وقال أبو يوسف وأحمد وإسحاق: الأقرأ، وهو قول ابن سيرين وبعض الشافعية، ولا شك في اجتماع هذين الوصفين في حق الصديق، ألا ترى إلى قول أبي سعيد: وكان أبو بكر أعلمنا، ومراجعة الشارع بأنه هو الذي يصلي تدل على ترجيحه على جميع الصحابة وتفضيله. فإن قلت: في حديث أبي مسعود البدري الثابت في مسلم: (ليؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى)، يعارض هذا؟ قلت: لا، لأنه لا يكاد يوجد إذ ذاك قارىء إلا وهو فقيه، وأجاب بعضهم: بأن تقديم الأقرأ كان في أول الإسلام حين كان حفاظ الإسلام قليلا، وقد قدم عمرو بن سلمة وهو صغير على الشيوخ لذلك، وكان سالم يؤم المهاجرين والأنصار في مسجد قباء حين أقبلوا من مكة لعدم الحفاظ حينئذ، وقال أصحابنا: أولى الناس بالإمامة أعلمهم بالسنة، أي: بالفقه والأحكام الشرعية إذا كان يحسن من القراءة ما تجوز به الصلاة، وهو قول الجمهور، وإليه ذهب عطاء والأوزاعي ومالك والشافعي. وعن أبي يوسف: أقرأ الناس أولى بالإمامة، يعني: أعلمهم بالقراءة وكيفية أداء حروفها ووقوفها وما يتعلق بالقراءة، وهو أحد الوجود عند الشافعية. وفي (المبسوط) وغيره: أنما قدم الأقرأ في الحديث لأنهم كانوا في ذلك الوقت يتلقونه بأحكامه، حتى روي أن ابن عمر، رضي الله تعالى عنها، حفظ سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة، فكان الأقرأ فيهم هو الأعلم بالسنة والأحكام، وعن ابن عمر أنه قال: ما كانت تنزل السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ونعلم أمرها ونهيها وزجرها وحلالها وحرامها، والرجل اليوم يقرأ السورة ولا يعرف من أحكامها شيئا. فإن قلت: لما كان أقرؤهم أعلمهم فما معنى قوله، صلى الله عليه وسلم: (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة؟) وأقرؤهم هو: أعلمهم بالسنة في ذلك الوقت لا محالة على ما قالوا؟ قلت: المساواة في القراءة توجيهها في العلم في ذلك الزمان ظاهرا لا قطعا، فجاز تصور مساواة الاثنين في القراءة مع التفاوت في الأحكام، ألا ترى أن أبي بن كعب، رضي الله تعالى عنه، كان أقرأ وابن مسعود كان أعلم وأفقه. وفي (النهاية): استقل بحفظ القرآن ستة: أبو بكر وعثمان وعلي وزيد وأبي وابن مسعود. رضي الله تعالى عنهم، وعمر، رضي الله تعالى عنه، كان أعلم وأفقه من عثمان، ولكن كان يعسر عليه حفظ القرآن، فجرى كلامه، صلى الله عليه وسلم، على الأعم الأغلب. فإن قلت: الكلام في الأفضلية مع الاتفاق على الجواز على أي وجه كان، وقوله، صلى الله عليه وسلم: ( فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة)، بصيغة تدل على عدم جواز إمامة الثاني عند وجود الأول، لأن صيغته صيغة إخبار، وهو في اقتضاء الوجوب آكد من الأمر، وأيضا فإنه ذكره بالشرط والجزاء فكان اعتبار الثاني إنما كان بعد وجود الأول لا قبله قلت: صيغة الإخبار لبيان الشرعية لا أنه لا يجوز غيره، كقوله صلى الله عليه وسلم: (يمسح المقيم يوما وليلة). ولئن سلمنا أن صيغة الإخبار محمولة على معنى الأمر، ولكن الأمر يحمل على الاستحباب لوجود الجواز بدون الاقتداء بالإجماع. فإن قلت: لو كان المراد في الحديث من قوله: (يؤم القوم أقرؤهم) هو الأعلم لكان يلزم تكرار الأعلم في الحديث، ويكون التقدير: يؤم القوم أعلمهم، فإن تساووا فأعلمهم؟ قلت: المراد من قوله: كان أقرؤهم أعلمهم، يعني: أعلمهم بكتاب الله دون السنة. ومن قوله: أعلمهم بالسنة أعلمهم بأحكام الكتاب والسنة جميعا. فكان الأعلم الثاني غير الأعلم الأول. فإن قلت: حديث أبي مسعود الذي أخرجه البخاري ومسلم: (يؤم القوم أقرؤهم)، الحديث يعارضه قوله، صلى الله عليه وسلم: (مروا أبا بكر يصلي
(٢٠٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 198 199 200 201 202 203 204 205 206 207 208 ... » »»