عمدة القاري - العيني - ج ٤ - الصفحة ١٥٧
ذكر معناه: قوله: (هل ترون قبلتي؟) استفهام على سبيل إنكار ما يلزمه منه، المعنى، أنتم تحسبون قبلتي ههنا، وإنني لا أرى إلا ما في هذه الجهة، فوا إن رؤيتي لا تختص بجهة قبلتي هذه، فإني أرى من خلفي كما أرى من جهة قبلتي، ثم العلماء اختلفوا ههنا في موضعين: الأول: في معنى هذه الرؤية، فقال قوم: المراد بها العلم إما بطريق أنه كان يوحى إليه بيان كيفية فعلهم، وإما بطريق الإلهام، وهذا ليس بشيء، لأنه لو كان ذلك بطريق العلم ما كانت فائدة في التقييد بقوله: (من وراء ظهري)، وقال قوم: المراد به أنه يرى من عن يمينه ومن عن يساره، ممن تدركه عينه مع التفات يسير في بعض الأحوال وهذا أيضا ليس بشيء، وهو ظاهر. وقال الجمهور، وهو الصواب: إنه من خصائصه، عليه الصلاة والسلام، وإن إبصاره إدراك حقيقي انخرقت له فيه العادة، ولهذا أخرجه البخاري هذا الحديث في علامات النبوة، وفيه دلالة للأشاعرة حيث لا يشترطون في الرؤية مواجهة ولا مقابلة، وجوزوا إبصار أعمى الصين بقعة أندلس قلت: هو الحق عند أهل السنة: إن الرؤية لا يشترط لها عقلا عضو مخصوص، ولا مقابلة ولا قرب، فلذلك حكموا بجواز رؤية ا تعالى في الدار الآخرة خلافا للمعتزلة في الرؤية مطلقا، وللمشبهة والكرامية في خلوها عن المواجهة والمكان، فإنهم إنما جوزوا رؤية ا تعالى لاعتقادهم كونه تعالى في الجهة والمكان، وأهل السنة أثبتوا رؤية ا تعالى بالنقل والعقل، كما ذكر في موضعه، وبينوا بالبرهان على أن تلك الرؤية مبرأة عن الانطباع والمواجهة واتصال الشعاع بالمرئي. الموضع الثاني: اختلفوا في كيفية رؤية النبي، عليه الصلاة والسلام، من خلف ظهره، فقيل: كانت له عين خلف ظهره يرى بها من ورائه دائما، وقيل: كانت له بين كتفيه عينان مثل سم الخياط، يعني: مثل خرق الإبرة يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غيره. وقيل: بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة أمثلتهم فيها، فيشاهد بذلك أفعالهم. قوله: (لا يخفى علي ركوعكم ولا خشوعكم) يعني: إذا كنت في الصلاة مستدبرا لكم؛ ويجوز أن يكون المراد من الخشوع السجود لأنه غاية الخشوع، وقد صرح في رواية مسلم بالسجود، ويجوز أن يراد به أعم من ذلك. فيتناول جميع أفعالهم في صلاتهم. فإن قلت: إذا كان الخشوع بمعنى الأعم يتناول الركوع أيضا، فما فائدة ذكره، قلت: لكونه من أكبر عمد الصلاة، وذلك لأن الرجل ما دام في القيام لا يتحقق أنه في الصلاة، فإذا ركع تحقق أنه في الصلاة، ويكون فيه عطف العام على الخاص. قوله: (فوا)، قسم منه وجوابه قوله: (لا يخفى). وقوله: (إني لأراكم) إما بيان وإما بدل. قوله: (ركوعكم) بالرفع فاعل (لا يخفى) وقوله: (ولا خشوعكم)، عطف عليه، أي: لا يخفى علي خشوعكم، والهمزة في لأراكم مفتوحة، واللام للتأكيد.
ومما يستفاد منه أنه ينبغي للإمام إذا رأى أحدا مقصرا في شيء من أمور دينه أو ناقصا للكمال منه أن ينهاه عن فعله، ويحضه على ما فيه جزيل الحظ. ألا ترى أنه كيف وبخ من نقص كمال الركوع والسجود، ووعظهم في ذلك بأنه يراهم من وراء ظهره كما يراهم من بين يديه؟ وفي تفسير سنيد: حدثنا حجاج عن ابن أبي ذئب حدثنا يحيى بن صالح حدثنا فليح عن هلال ابن علي عن أنس قال: (صلى لنا رسول الله صلاة، ثم رقى المنبر فقال، في الصلاة وفي الركوع إني لأراكم من ورائي كما أراكم). وفي لفظ: (أقيمت الصلاة فأقبل علينا بوجهه فقال: أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري). وفي لفظ: (أقيموا الركوع والسجود فوا إني لأراكم من بعدي، وربما قال: من بعد ظهري، إذا ركعتم وإذا سجدتم). وعند مسلم: (صلى بنا ذات يوم، فلما قضى صلاته أقبل علينا بوجهه، فقال: أيها الناس: إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف، فإني أراكم أمامي ومن خلفي، ثم قال. والذي نفس محمد بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا. قالوا: وما رأيت يا رسول ا؟ قال رأيت: الجنة والنار).
81 - (حدثنا يحيى بن صالح قال حدثنا فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن أنس بن مالك قال صلى بنا النبي صلاة ثم رقي المنبر فقال في الصلاة وفي الركوع إني لأراكم من ورائي كما أراكم) مطابقته للترجمة مثل مطابقة الحديث الذي قبله.
(ذكر رجاله) وهم أربعة. يحيى بن صالح الوحاظي بضم
(١٥٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 152 153 154 155 156 157 158 159 160 161 162 ... » »»