عمدة القاري - العيني - ج ٣ - الصفحة ٧٠
في هذه المواضع للترتيب لأن: ثم، تستعمل لثلاثة معان: التشريك في الحكم، والترتيب، والمهلة. مع أن في كل واحد خلافا، والمراد من الترتيب هو الترتيب في الإخبار لا الترتيب في الحكم مثل ما يقال بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب! أي: ثم أخبرك أن الذي صنعته أمس أعجب. قوله: (بدأ بمقدم رأسه) إلى قوله: (منه) بيان لقوله: (فأقبل بهما وأدبر)، ولذلك لم تدخل الواو عليه. قوله: (بدأ منه...) إلى آخره من الحديث، وليس مدرجا من كلام مالك.
بيان استنباط الاحكام الأول: فيه غسل اليد قبل شروعه في الوضوء، وذكر هنا مرتين، وذكر في حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، مرتين أو ثلاثا، ثم إن هذا الغسل ليس من سنن الوضوء ولا من الفروض، وذهب داود وابن جرير الطبري إلى إيجاب ذلك، وأن الماء ينجس إن لم تكن اليد مغسولة. وقال ابن القاسم: غسلهما عبادة؛ وقال مالك: السنة أن يغسل يديه قبل الشروع في الوضوء مرتين، كما هو في رواية هذا الحديث. قلت: فيه أقوال خمسة: الأول: إنه سنة، وهو المشهور عندنا، كذا في (المحيط) و (المبسوط) ويدل عليه أنه، عليه الصلاة والسلام، لم يتوضأ قط إلا غسل يديه. وفي (المنافع) تقديم غسلهما إلى الرسغين سنة تنوب عن الفرض، كالفاتحة تنوب عن الواجب وفرض القراءة. الثاني: إنه مستحب للشاك في طهارة يده، كذا روي عن مالك. الثالث: إنه واجب على المنتبه من نوم الليل دون نوم النهار، قال أحمد. الرابع: إن من شك: هل أصابت يده نجاسة أم لا؟ يجب غسلهما في مشهور مذهب مالك. الخامس: إنه واجب على المنتبه من النوم مطلقا، وبه قال داود وأصحابه. وفي الحواشي تقديم غسل اليدين للمستيقظ يترك بالحديث، وإلا فسببه شامل له ولغيره.
الثاني: فيه المضمضة والاستنشاق، وهما سنتان في الوضوء، فرضان في الغسل. وبه قال الثوري. وقال الشافعي: سنتان فيهما، وحكاه ابن المنذر عن الحسن البصري والزهري وقتادة والحكم وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري ومالك والأوزاعي والليث، وهو رواية عن عطاء وأحمد، وعنه أنهما واجبتان فيهما، وهو مذهب ابن أبي ليلى وحماد وإسحاق. والمذهب الرابع: أن الاستنشاق واجب في الوضوء والغسل دون المضمضة، وبه قال أبو ثور وأبو عبيد، وهو رواية عن أحمد.
الثالث: فيه أنه، عليه الصلاة والسلام، مضمض واستنشق ثلاثا بثلاث غرفات، وبه قال الشافعي، وفي (الروضة). في كيفيته وجهان: أصحهما: يتمضمض من غرفة ثلاثا، ويستنشق من أخرى ثلاثا. والثاني: بست غرفات. واستدل أصحابنا بحديث الترمذي رواه عن علي، رضي الله تعالى عنه، وفي: (مضمض ثلاثا، واستنشق ثلاثا)، وقال: حديث حسن صحيح. فإن قلت: لم يحك فيه ان كل واحدة من المضامض والاستنشاقات بماء واحدة بل حكى انه تمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا قلت مضمونه ظاهرا ما ذكرناه، وهو أن يأخذ لكل واحد منهما ماء جديدا، وكذا روى البويطي عن الشافعي أنه يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة، وثلاث غرفات للاستنشاق.
الرابع: فيه غسل الوجه ثلاث مرات، وليس فيه خلاف.
الخامس: فيه غسل يديه مرتين، وجاء في رواية مسلم: ثلاثا. فإن قلت: هل هذا يغسل يديه ههنا من أول الأصابع أو يغسل ذراعيه؟ قلت: ذكر في الأصل غسل ذراعيه لا غير لتقدم غسل اليدين إلى الرسغ مرة، وفي (الذخيرة): الأصح عندي أن يعيد غسل اليدين ظاهرهما وباطنهما، لأن الأول كان سنة افتتاح الوضوء، فلا ينوب عن فرض الوضوء.
السادس: فيه أن المرفقين هما يدخلان في غسل اليدين عند الجمهور، خلافا لزفر ومالك في رواية، و قد روى الدارقطني من حديث جابر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه)، وروى البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر: (وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق)، وروى الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد العبدي عن أبيه مرفوعا: (ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه).
السابع: فيه مسح رأسه، احتج به مالك وابن علية وأحمد في رواية علي أن مسح جميع الرأس فرض؛ ولكن أصحاب مالك اختلفوا، فقال أشهب: يجوز مسح بعض الرأس، وقال غيره: الثلث فصاعدا، وعندنا وعند الشافعي: الفرض مسح بعض الرأس. فقال أصحابنا: ذلك البعض هو ربع الرأس، واستدلوا بحديث المغيرة بن شعبة لأن الكتاب مجمل في حق المقدار فقط، لأن: الباء، في (وامسحو برؤوسكم) للإلصاق باعتبار أصل الوضع، فإذا قرنت بآلة المسح يتعدى الفعل بها إلى محل المسح فيتناول جميعه، كما تقول: مسحت الحائط بيدي، ومسحت رأس اليتيم بيدي، فيتناول كله،
(٧٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 ... » »»