ومنها: أن هذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الطهارة عن علي بن عبد الله عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن صالح بن كيسان عن الزهري به، وفي الدعوات عن عبد العزيز بن عبد الله عن إبراهيم بن سعد به، وأخرجه النسائي في العلم عن محمد بن مصفى عن محمد بن حرب به، وفي اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن معمر عن الزهري نحوه، ولم يذكر: وأنا ابن خمس سنين. وأخرجه ابن ماجة في الطهارة عن أبي مروان محمد بن عثمان العثماني عن إبراهيم بن سعد به.
بيان اللغات: قوله: (عقلت) أي: عرفت. ويقال: معناه حفظت، عن: عقل يعقل من باب: ضرب يضرب، عقلا ومعقولا. وهو مصدر. وقال سيبويه: وهو صفة، وكان يقول: إن المصدر لا يتأتى على وزن مفعول البتة. قوله: (مجة) يقال: مج الشراب من فيه إذا رمى به. وقال أهل اللغة: المج إرسال الماء من الفم مع نفخ. وقيل لا يكون مجا حتى تباعد به. وكذلك مج لعابه والمجاجة والمجاج الريق الذي تمجه من فيك، ومجاجة الشيء إيضا عصارته، ويقال: إن المطر مجاج المزن والعسل مجاج النحل والمجاج أيضا اللبن، لأن الضرع يمجه والتركيب يدل على رمي الشيء بسرعة.
بيان الإعراب: قوله: (عقلت)، جملة من الفعل والفاعل مقول القول. قوله: (مجة) بالنصب مفعوله، قوله: (مجها)، جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل النصب على أنها صفة لمجة، والضمير فيها يرجع إلى المجة. قوله: (في وجهي) حال من مجه. قوله: (من دلو)، أي: من ماء دلو والدلو يذكر ويؤنث. وقوله: (وأنا ابن خمس سنين) جملة اسمية من المبتدأ والخبر معترضة وقعت حالا: إما من: تاء، عقلت، أو من: ياء وجهي.
بيان المعاني: قوله: (وأنا ابن خمس سنين)، قد ذكرنا أن المتأخرين قد حددوا أقل سن التحمل بخمس سنين. وقال ابن رشيد: الظاهر أنهم أرادوا بتحديد الخمس أنها مظنة لذلك، لا أن بلوغها شرط لا بد من تحققه، وليس في (الصحيحين) ولا في غيرهما من الجوامع والمسانيد التقييد بالسن عند التحمل في شيء من طرقه إلا في طريق الزبيدي هذه، وهو من كبار الحفاظ المتقنين عن الزهري، ووقع في رواية الطبراني والخطيب في (الكفاية)، من طريق عبد الرحمن بن نمر، بفتح النون وكسر الميم، عن الزهري، قال: حدثني محمود بن الربيع: وتوفي النبي، عليه الصلاة والسلام، وهو ابن خمس سنين، واستفيد من هذه الرواية أن الواقعة التي ضبطها كانت في آخر سنة من حياة النبي، عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر ابن حبان وغيره أنه مات سنة تسع وتسعين، وهو ابن أربع وتسعين سنة، وهو مطابق لهذه الرواية. وذكر عياض في (الإلماع) وغيره أن في بعض الروايات أنه كان ابن أربع سنين، وليس في الروايات شيء يصرح بذلك، فكأن ذلك أخذ من قول ابن عمر أنه عقل المجة وهو ابن أربع سنين أوخمس، وكأن الحامل له على هذا التردد قول الواقدي: إنه كان ابن ثلاث وتسعين سنة لما مات، والأول أصح. قوله: (من دلو)، وفي رواية النسائي: (من دلو معلق)، وفي (الرقاق) من رواية معمر: (من دلو كانت في دارهم). وفي الطهارة والصلاة وغيرهما: (من بئر)، بدل: (دلو). ولا تعارض بينهما، لأنه يتأول بأن الماء أخذ بالدلو من البئر وتناوله النبي، عليه الصلاة والسلام، من الدلو.
بيان استنباط الأحكام: الأول: فيه بركة النبي، عليه الصلاة والسلام، كما جاء من أنه يحنك الصبيان بأن يأخذ التمرة يمضغها ويجعلها في فم الصبي، وحنك بها: حنكه بالسبابة حتى تحللت في حلقه، وكانت الصحابة، رضي الله عنهم، يحرصون على ذلك إرادة بركته، عليه الصلاة والسلام، لأولادهم، كما رأوا بركته في المحسوسات والأجرام من تكثير الماء بمجه في فرلادين وفي بئر الحديبية. الثاني: فيه جواز سماع الصغير وضبطه بالسنن. الثالث: قال التيمي: فيه جواز مداعبة الصبي، إذ داعبه النبي، عليه الصلاة والسلام، فأخذ ماء من الدلو فمجه في وجهه.
فائدة: تعقب ابن أبي صفرة على البخاري من ذكره حديث محمود بن الربيع في اعتبار خمس سنين، وإعقاله حديث عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما، أنه رأى أباه يختلف إلى بني قريظة في يوم الخندق ويراجعهم، ففيه السماع منه وكان سنه إذ ذاك ثلاث سنين، أو أربع، فهو أصغر من محمود، وليس في قصة محمود ضبطه لسماع شيء، فكان ذكره حديث ابن الزبير أولى لهذين المعنيين. وأجيب: بأن البخاري إنما أراد نقل السنن النبوية لا الأحوال